أسطورة لها بصمات

عندما بدأت معلمة رياض الأطفال الأميركية إيرين كيلبرايد حزم حقائبها في الثلث الأول من شهر أغسطس (آب) الماضي استعدادا لتنفيذ أمر الإبعاد من البحرين بدعوى نشاطها المشبوه عبر مواقع التواصل الاجتماعي تعاطفا مع حزب الله، كانت البحرين إذ ذاك في شغل شاغل لحصر جميع مصالح حزب الله الاقتصادية تنفيذا لقرارات المجلس الوزاري الخليجي لوزراء الخارجية الذي عقد في مدينة جدة في الثاني من شهر يونيو (حزيران) 2013.

لم تكن كيلبرايد آخر حلقات سلسلة الأخبار الرابطة بين حزب الله والبحرين، إذ أعقبها بعدة أسابيع قليلة، وبالتحديد في 12 من سبتمبر (أيلول) 2013، بث نبأ عبر وكالة أنباء البحرين (بنا) خبرا يشير إلى اكتشاف مجموعة من طرود الكتب لدور النشر المشاركة في معرض الأيام الثقافي للكتاب «حيث تم العثور على مجموعة كبيرة من الكتب التابعة لدور نشر تنتمي لما يسمى بحزب الله، مما تبث الطائفية والكراهية والراديكالية العقائدية المتطرفة، والتي تمثل تهديدا مباشرا لأمن واستقرار مملكة البحرين». وأكدت هيئة شؤون الإعلام أن محاولة إدخال هذه الكتب تعد «تحديا سافرا ومشينا ضد إرادة وسيادة مملكة البحرين لما تحمله بين طياتها من سموم طائفية وفكرية تستهدف وحدة المجتمع البحريني».

هاتان الواقعتان هما الأحدث في سلسلة علاقة مضطربة ومتوترة بين السلطات البحرينية وحزب الله اللبناني اخترقت نحو ثلاثة عقود من الحراك الذي يطفو فيه اسم حزب الله كلما مرت على البحرين حوادث مختلفة، واضطرابات أمنية، وخصوصا إذا ما صاحب هذه الاضطرابات حوادث عنف تظهر فيها ما تشير إليه السلطات المحلية بأنها «تحمل بصمات» هذا الحزب.


المرور بالجذور

لقد أسس انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية فبراير (شباط) 1979م لانطلاق الكثير من الدعوات على ضفاف الخليج أو ما أطلق عليه لاحقا الهلال الشيعي لمحاولة الحصول على ما يراه شيعة المنطقة حقوقا لهم، خصوصا مع رؤيتهم لواحد من أعتى النظم التسلطية وأقواها في المنطقة، وأكثرها ارتباطا بالولايات المتحدة، يتداعى تحت صيحات الإيرانيين بقيادة دينية. أتى هذا مع التراجع الكبير للقوى الوطنية والقومية واليسارية في المنطقة لأسباب ذاتية في هذه التنظيمات، وموضوعية، ونتيجة أيضا لتغير الكثير من التحالفات الدولية التي قلصت وحددت حجم المعونات والإمدادات والمساعدات التي كان يغدقها المعسكر الشرقي على هذه التنظيمات، في الوقت الذي تنامت فيه القوى الدينية بشكل عام، والإسلامية في المنطقة بأسرها.
لم تمر سوى أعوام قليلة على الثورة، حتى أعلنت البحرين عام 1982م عن محاولة جادة للانقلاب على نظام الحكم، ومنذ ذلك الحين وعلى مدى العقود الثلاثة التالية، فإن الاضطرابات التي يقودها شيعة مسيسون في البحرين لم تنقطع، وكذلك أنباء اكتشاف محاولات انقلاب لم تتوقف حتى وصلت إلى العشرات كما أعلنت عنها السلطات البحرينية، والأنظار تتجه دائما إلى المثلث نفسه: إيران شرقا، حزب الله شمالا، الناشطون السياسيون الشيعة داخلا.
الشيعة البحرينيون – من جهتهم، وهم مكون رئيس وأساسي في البحرين بخلاف كثافتهم العددية في الدول الخليجية الأخرى – يقولون بأنهم هم من ثبتوا نظام الحكم لآل خليفة، إذ إنهم صوتوا لعروبة البحرين واستقلالها عندما طالبت إيران بضم البحرين إليها عام 1971 حينما نالت البحرين استقلالها من بريطانيا، وبالتالي، فإنهم من رجح كفة التصويت وثقل الموازين لتقتنع الأمم المتحدة برغبة أهالي البحرين بالاستقلال ورضاهم بأسرة آل خليفة حكاما لهم، وبالتالي فهم يرفضون ما تتناوله بعض الجهات سرا وعلانية بتبعيتهم لإيران، وبالتالي لحزب الله، القوة الضاربة للسياسة الإيرانية الخارجية، كما رفضوا في أبريل (نيسان) عام 2006 تصريحات أطلقها الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك حين شكك في ولاء الشيعة في الخليج لأوطانهم.


علاقات تتوتر

وإذا كانت العلاقات البحرينية – الإيرانية الرسمية تمر بحالات من المد والجزر، والاعتدال والمشاددة، بحسب تقلب الحكومات الإيرانية وتغيرها، وبحسب اعتدالها وراديكاليتها من وجهة النظر المحلية والدولية معا؛ فإن العلاقة مع حزب الله بالعكس من ذلك لم تشهد يوما أي نوع من التقارب، لكثير من العوامل، أهمها انتفاء وجود قواسم مشتركة أو مصالح متقاطعة بين الطرفين. كما لم تكن البحرين لتخرج عن الإجماع الخليجي في هذا الشأن الذي ظل ينظر بالكثير من التوجس والقلق إلى حزب الله بوصفه عصيا على الدخول في أي تسوية سياسية يكف فيها عن تأليب الأوضاع الداخلية في الدول الخليجية، بحسب ما تعلن عنه بين الفينة والأخرى. إضافة إلى أن البحرين – ومنذ 2001، تعتبر الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة من خارج حلف الناتو، ولم تكن هذه الوضعية لتأتي إلا بعد جلاء وجهات نظر الطرفين إزاء الكثير من القضايا، ومن بينها علاقاتها الاستراتيجية مع محيطها بما في ذلك حزب الله.

هذه العلاقة ما بين الدولة والحزب برزت بشكل واضح جدا، وصارخ إبان ما سمي بـ«أحداث التسعينات» التي مرت بالبحرين. ومن المفارقات أن هذه الأحداث كانت بذرتها عريضة سلمية شكلها ناشطون سياسيون من القوميين واليساريين وشيوخ الدين من السنة والشيعة، تطالب الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة بعودة العمل بدستور البحرين وإحياء المجلس الوطني المنتخب الذي بدأ أعماله في 1973 وتم حله في صيف 1975؛ إلا أنها انتهت شيعية خالصة من خلال المصادمات التي حدثت.

بعد سنة ونصف السنة من الكر والفر بين قوات الأمن والمحتجين، أعلنت السلطات البحرينية في 3 يونيو 1996م عن كشف مؤامرة انقلاب من مجموعة مدعومة من إيران تدعى «حزب الله البحرين». وعلى إثر ذلك، سحبت البحرين سفيرها في إيران وخفضت تمثيلها إلى مستوى القائم بالأعمال، ونشرت الصحف المخطط وصورا لأعضاء قالت بأنهم القياديون والمنفذون لما يرمي إلى تغيير نظام الحكم بالقوة. ومنذ ذلك الحين، ظل اسم حزب الله وحده، أو «حزب الله البحرين»، مرتبطا بأحداث العنف التي تلفح البحرين مرة في كل عقد من الزمان. ولكن «حزب الله البحرين» ليس هو الحزب اليتيم الذي يعلن عنه خليجيا، إذ أعلنت دول خليجية أخرى (كالكويت) وجود «حزب الله الكويت» وغيرها من الدول التي إن لم تشر صراحة، فإنها تشير إليه.

وفي حين أن حزب الله يلوذ بالصمت حينا، ويبادر إلى النفي حينا إزاء ما تعلنه المنامة، إلا أن علاقته الوطيدة بطهران تجعله في دائرة ضوء الأحداث التي تقع في البحرين، إذ تتهم المنامة الحزب بأنه يدخل بحرينيين إلى معسكرات تدريب على حمل السلاح وصنع المتفجرات والتخابر وغيرها من الأنشطة الرامية إلى نشر الفوضى المؤدية إلى زعزعة النظام والانقلاب عليه. وتشير وزيرة شؤون الإعلام في أكثر من تصريح إلى أن إيران تسخر ما مجموعه 19 قناة تلفزيونية للهجوم على البحرين بشكل مكثف وترويج الشائعات والأكاذيب، على حد وصفها. وإيران من جهتها لا توفر سبيلا لإذكاء نيران المشكلات العالقة. فمع أن مساحة البحرين لا تزيد على 0.04 في المائة من مساحة إيران، وشعب البحرين لا يعادل سوى 1.64 في المائة من سكان إيران، إلا أنه يتكرر في كل حين أن أحد الرسميين يقول بأن البحرين أرخبيل تابع لها، فتشتعل الساحة السياسية بين الطرفين.


متوازيان لا يلتقيان

وفر عدد كبير من شيعة البحرين المتحمسين سياسيا وعقائديا المناخ المناسب لربط أنفسهم وحراكهم بحزب الله على صيغة «تهمة لا تنفى، وشرف لا يدعى». إذ ومنذ تسعينات القرن الماضي وحتى مطالع العقد الثاني من القرن الحالي، كانت أعلام حزب الله التي لا تخطئ، بلونها الأصفر الفاقع، وخط الاسم باللون الأخضر الزيتي، بيد تمتد من «ألف» لفظ الجلالة حاملا كلاشينكوف، تلوح فوق رؤوس المتظاهرين، سواء كانت المسيرات لتأييد فلسطين، أو لمطالبات سياسية محلية. مع ترداد شعارات تشق عنان السماء «هل من ناصر فدائي؟ لبيك خامنئي»، وأخرى تقول «لبيك يا نصر الله». كما أن شعار الحزب يلصق أحيانا على الزجاج الخلفي للسيارات، وتعلق صور أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله في مرايا السيارات وفي علاقات المفاتيح وغيرها، دليلا على الإعجاب الشديد بالحزب وأمينه العام كرمز، ومن ورائهما الدولة الراعية والممولة (إيران). ومع ذلك فإن بعضا من الشيعة يشيرون إلى أن العالم العربي كان في الخمسينات والستينات من القرن العشرين يرفع صورا لقادة عرب أمثال جمال عبد الناصر، رمزا للحرية والكرامة، فهل هناك من بأس أن ترفع اليوم أعلام وصور رموز مقاومة العدو الصهيوني؟

الاستنكار والإنكار ذاته يتكرر في المقالات التي تحاول نفي وجود «حزب الله البحرين» من أساسه، على اعتبار أنه «فزاعة» ليس أكثر حتى يتم تبرير الاعتقالات التي تطال الناشطين السياسيين، فقد كتب الصحافي عادل مرزوق في صحيفة «الوسط» البحرينية 10 مارس (آذار) 2008 قائلا: «لم يحدث أن تم استهلاك تهمة في أي مجتمع من المجتمعات حول العالم كما استهلكت تهمة الانتماء لحزب الله في البحرين، وبحسب ما تقتضيه طبيعة هذا المسرح السياسي الذي ابتلينا به. فإن أي حدث أمني جديد لا بد أن يعيد لأذهان البعض هذه التهمة – حزب الله البحرين – لتكون ردة الفعل الأولى الجاهزة والمعلبة مع إشارة واضحة لأطراف خفية تريد أن تمنع أي تلاق وطني، فتسعى إلى إذكاء هذا الملف». وهو بذلك يتساوق – وإن بعد سنوات وبعد أحداث 2011 – مع ما أصدره الحزب من لبنان من بيان نفى فيه أي علاقة له بخلية عسكرية أعلنت البحرين عن اكتشافها، وأشار البيان إلى هذا الخبر «محاولة فاشلة من نظام البحرين للتعمية على حقيقة الثورة الشعبية في البحرين». وكانت البحرين قد قدمت في ذلك الحين احتجاجا رسميا للحكومة اللبنانية لإعلان حزب الله عرضه المساعدة على المحتجين. وألقت القبض في 23 مارس 2011 على خمسة من العمال اللبنانيين المقيمين بالبحرين للاشتباه ﻓﻲ صلتهم مع حزب الله بلبنان، وعلقت كل من شركة «طيران الخليج» وشركة «طيران البحرين» رحلاتهما إلى بيروت.

لم يقتصر الأمر على تهمة عرض المساعدة وحسب، فبعد الانتهاء رسميا من الاحتجاجات في عمق العاصمة المنامة والتي استمرت شهرا (14 فبراير – 16 مارس 2011)، وبعد انقضاء فترة «السلامة الوطنية» في يوليو (تموز) من العام نفسه، شهدت البحرين جملة من الحوادث المتفرقة، فأعلنت خلال 2012 عن تفجير قنابل أودت بحياة بعض العمال الآسيويين، وقالت وكالة أنباء البحرين في بيان لها إن أساليب «الإرهابيين» تثبت أنهم دربوا «خارج البحرين وأن بصمات حزب الله واضحة تماما». ونقلت عن الوزيرة سميرة رجب أن «التفجيرات نفذتها جماعات إرهابية دربت خارج البلاد وتتخذ من دول أخرى من بينها لبنان مقرا».
ولكن قبل هذه التفجيرات في يونيو من عام 2012 بنحو ثمانية أشهر، يقف البروفسور محمود شريف بسيوني أمام ملك البحرين ويلقي الملخص التنفيذي لتقرير لجنته ليقول فيه نصا في الفقرة (1584): «ﻻ يقيم الدليل الذي قدمته حكومة البحرين ﻟﻠﺠﻨﺔ حول تدخل جمهورية إيران الإسلامية ﻓﻲ الشؤون الداخلية لمملكة البحرين أي ربط مدرك أو ملحوظ بين أحداث حدثت بعينها بالبحرين خلال شهري فبراير ومارس 2011 وجمهورية إيران الإسلامية»، وهو التصريح الذي جعل المعارضة السياسية الشيعية تتنفس الصعداء؛ فإن عاهل البحرين في الرد على التقرير، قال من ضمن ما قاله إن هناك أدلة على التدخل، ولا يسمح الوضع بالكشف عنها في حينه.

لم تعلن السلطات البحرينية بعد ما إذا انتهت من حصر مصالح حزب الله أم لا، ولا ما الذي توصلت إليه من هذا الحصر حتى الآن، إلا أن حقيقة وجود علاقة بين «حزب الله» وأحداث البحرين سواء التي حدثت أخيرا أو ما قبل ذلك، فضلا عن وجود «حزب الله البحرين»، هي من القضايا البالغة الإشكالية، إذ يؤكد جناح في الدولة تأكيدا لا يخامره الشك بوجود هذا الحزب وتلقيه التدريب والتوجيه من الحزب الأم، بينما ينفي الجناح الآخر ما وسعه النفي أن يكون هناك ما يسمى بـ«حزب الله البحرين». وبين النفي والإثبات، هناك الكثير مما ينتظر أن تكشف الأيام عنه.

__________
المصدر: مجلة المجلة


14 أكتوبر 2013



الأفكار الواردة في الأوراق والمداخلات والتعقيبات لا تعبر عن رأي الموقع وإنما عن رأي أصحابها