المتحف الوطني والاستشراق في القرن الواحد والعشرين


المصدر


 
عائشة أحمد:
 
عاشت الدوحة في الأسابيع الماضية عرساً صاخباً ومهرجاناً ضاجاً، احتفاءً بإعادة افتتاح متحفها الوطني بعد إغلاق دام أكثر من عشر سنوات، فأينما وليّت وجهك وجدت ملصقاً ترويجياً، أو مشهداً دعائياً مصوراً، أو خبراً هنا وهناك عن الحفل الضخم. لكن بعد انقضاء موجة التهليل وجلبة تدشين المبنى الجديد، دعونا نتوقف قليلاً لمراجعة وتحليل ما حدث ويحدث.
 
في البدء، دعوني أطرح عليكم هذا السؤال: "هل تعرف/تعرفين ما هي "وردة الصحراء" قبل الإعلان عن تصميم المتحف الوطني الجديد؟"
 
في الواقع، وجهت هذا السؤال للعديد من القطريين والقطريات، والمقيمين والمقيمات العرب، الذين قضوا جل حياتهم في الدوحة، وكانت إجابة الأغلبية: "لا." حتى أولئك الذين ردوا بـ"نعم" فهم غالباً سمعوا عنها من مصادر غربية، وبالتالي، لا يربطونها بأي شكل من الأشكال بالهوية القطرية، ولا يعتبرونها رمزاً للبيئة المحلية أو التراث.
 
أنا مثلاً سمعت المصطلح لأول مرة عام 1999، في أغنية للمغني الإنجليزي، ستينغ، والتي أداها صحبة الفنان الجزائري الشاب مامي وتحمل نفس العنوان. حينها أيضاً لم أقرن "وردة الصحراء" بتلك التكوينات المعدنية والمترسبة في الرمال. في ذلك الوقت فهمتها كتركيب رمزي لسيدة قد تشبه الورد الإنجليزي في نعومتها، لكنها من بوادي الشرق الفاتنة! إلى أن مرت عليّ المفردة مرة أخرى بعد سنوات قليلة، وبحثت عن الموضوع واكتشفت أصل التسمية.  وهكذا، فأنا لم أر وردة الصحراء هذه، إلا في متجر المتحف الإسلامي قبل أعوام، منذ الإعلان عن التصميم الجديد، وفي المتاجر الأخرى التابعة للمتاحف القطرية، مع أنني مثل كل قطري وقطرية كانت نزهاتي العائلية في كل موسم شتاء مقتصرة على البر، للاستمتاع بالخضرة المتفرقة و"الروضات" التي تنتج عن الأمطار، وللبحث عن الفقع أو الكمأة بالطبع!
 
هكذا إذن، نجد أن هذه الوردة، وكما أنها لا تمت للورود الشذية الندية بأي صلة، هي لا تمت أيضاً بصلة لمفهومنا الخاص عن بيئتنا المحلية وثقافتنا. فمن أين جاء إذن تصميم المتحف الجديد؟
 
التصميم للفرنسي جان نوفيل، وهو من نجوم العمارة في العالم، فهو الذي صمم مركز العالم العربي المعروف في باريس بمشربياته الحيّة، التي تتسع وتضيق بناء على كمية الضوء التي تبعث بها الشمس في سماء العاصمة الأوروبية. له كذلك صرح مشهور على الكورنيش هنا، "برج الدوحة" والمغطى أيضاً بنفس فكرة الزخارف الهندسية الإسلامية والتي أسماها الغرب اصطلاحاً "أرابيسك".
 
بالمثل، جاء تصميم المبنى الحداثي للمتحف الوطني الجديد، فوردة الصحراء كما عنونت الجزيرة مقالاً لها عن المتحف "تتفتق بخيال مهندس فرنسي"! هي إذن، وببساطة شديدة من "الخيال الأوروبي"، أو تصور غربي رومانسي عن الشرق ورمزاً لشاعرية باديته. التصميم نتاج الرؤية الخاصة، أو النموذج الأوروبي لفكرة الصحراء، والتي عمل عليها مهندس فرنسي لعمارة متحفنا الوطني.
 
فكرة التصميم هذه تعيدنا إلى القرن التاسع عشر، وإلى ولع وهوس الأوروبيين بالشرق، والذي تزامن مع حملة نابوليون من 1798 إلى 1801 إلى مصر وبلاد الشام. فتسابق فنانو أوروبا النيوكلاسيكيين والرومانسيين إلى رسم الشرق، تلك الأراضي الحلم، غير المكتشفة، والتي لم تخربها المدنية ولم تلوثها الثورات الصناعية والحضارة بعد. بطبيعة الحال كانت هذه الحملة النواة التي أسست فيما بعد للمد الاستعماري الأوروبي في الشرق.
 
في الحقيقة، جزء كبير من هذه الأعمال والتي صورت فتنة شمال أفريقيا والشرق الأوسط كانت تحمل صوراً مغلوطة، وفي أحيان كثيرة، قد ينفذها فنان لم يزر أي من هذه البلدان أصلاً. التفاصيل الواقعية بما فيها من تفاصيل معمارية وأزياء وسجاد وأباريق وبلاطات بتفصيلاتها ونماذجها، وخيول جامحة، وسيدات عرايا في الحرملك، وأمات مستلبات في سوق العبيد، وجوامع متهالكة، وأطلال شاعرية، يتم تجميعها في وصفة سحرية لخلق شرق يتماهى مع فكرة الأوروبي عن "الشرق". هذه اللوحات والتصاوير من ناحية سياسية، أسهمت كذلك في تبرير الحملات العسكرية لإخضاع هذه الأمم، والتي لم تلتحق بركب الحضارة، فهي في رأيهم، في أمس الحاجة للرجل الأبيض لـ"تتطور" ولكي "تتمدن" على طريقته.
 
هذا يبدو جلياً أيضاً في محتوى المتحف على صفحاته الإعلامية الخاصة، مثلاً على صفحة الإنستغرام الخاصة بالمتحف الوطني، تتحفنا وتبهرنا واحدة من المقاطع المصورة والمتداولة، لباحثة من موظفي المتحف وهي تحدثنا عن القصة وراء "الدلة". وفي أقل من دقيقة تصف لنا "الدلة" بأنها "إبريق من النحاس لصنع وحفظ القهوة" وكيف أنه لا يخلو مجلس قطري منها، فهي "رمز للضيافة!" فهل هناك قطري أو قطرية، عربي أو عربية لا يعرفون ما هي "الدلة"؟ أم أن هذا اكتشاف جديد، للقائمين على المتحف، والذين هم بطبيعة الحال غربيين، ومحتواهم موجه لذات الفئة؟ تلك الفئة التي تحط علينا من العالم الأبيض المتفوق إلى العالم غير المتمدن بما فيه الكفاية. وأظن أنه من الممكن تسمية هذا الوضع مجازاً "الاستشراق المعاصر" أو "استشراق القرن الواحد والعشرين"!
 
لائحة المدعوين لحفل الافتتاح الضخم، تدعم هذه الفكرة أيضاً، فقد شملت القائمة مشاهير عالميين من هوليوود وعالم الأزياء والموضة ونجوم الموسيقى والإعلام والسياسة، في حين كان الحضور القطري والعربي على حد السواء خجولا جداً، ولا يكاد يبين. بالإضافة لكل ذلك، رافق الافتتاح فعالية ثقافية، على شكل مؤتمر للفن والتصميم في قطر تحت عنوان "قطر تبدع!" والمفارقة الساخرة أن بين أكثر من عشرين متحدث ومتحدثة، كان عدد المشاركين القطريين يُعد على أصابع اليد الواحدة!
 
في حساب المتحف على الإنستغرام أيضاً نجد صوراً للقائمين على المتحف ولا داعي لذكر أن غالبيتهم ليسوا قطريين ولا عرباً، لكن هذا بالذات يعيدني إلى المتحف الوطني سابقاً؛ القصر القديم المبني عام 1918 والذي فاز بعد ترميمه وتوسعته في السبعينيات، بجائزة الأغا خان للعمارة عام 1980، ولقد كان المتحف بحدائقه الظليلة وبحيرته الصناعية الصغيرة، وجهتنا المفضلة للرحلات المدرسية وأيام العيد أيضاً، مع والديّ وأختيّ. وبالرجوع إلى قائمة أعضاء هيئة الإدارة والمؤسسين والعاملين، نجد أن كلهم دون استثناء أسماء قطرية وعربية. في إحدى لقاءته يتكلم جاسم زيني، والذي عين مديراً للمتحف منتصف السبعينيات، عن المهمة التي أوكلت إليه مع فريق من الباحثين القطريين، لتكوين المجموعة، ولاقتناء القطع المناسبة للعرض. نجده يتحدث بحنين عن تلك الرحلات التي قاموا بها للقرى والهجر خارج الدوحة، للبحث وللتقييم وتنسيق المعروضات.
 
ومع الأسف، تم طمس ذلك القصر القديم بحدائقه وأشجاره. القصر الذي كان روح المكان وجوهره، اختفى وراء تلك الألواح العملاقة للتصميم الحديث الذي ابتلعه، والمستوحى من وردة الصحراء التي "تفتق" عنها الخيال الفرنسي! فما عاد بالإمكان رؤية القصر من الشارع، ولا من على الكورنيش. وهكذا فقدنا معلماً تاريخياً آخر، كما فقدنا الكثير من قبل باسم التحسين والتطوير. وفي رأيي، يبدو المبنى بألواحه المتداخلة كجسم غريب على المنطقة، فهو غير متسق مع ما حوله، ولا شيء يربطه بالبيئة المحيطة به.
 
وفي الوقت الذي استعانت به دول الجوار بخبرات من الغرب لتأسيس متاحفهم، كان متحف قطر صرحاً قطرياً بامتياز. فلم انتهى بنا الأمر بنا إلى هذا الحال؟ وبعد مرور عشرات السنوات، نطرح هذا السؤال: ألا توجد لدينا كفاءات لتصميم وتأسيس وإدارة متحفنا الوطني؟ أم أن الغرض الحقيقي من وراء تشييد هذه الصروح والمتاحف هو جذب اهتمام الغرب، وتلك الرغبة الملحة بالحصول على إعجابهم وموافقتهم.


الأفكار الواردة في الأوراق والمداخلات والتعقيبات لا تعبر عن رأي الموقع وإنما عن رأي أصحابها