الثابت والمتحول 2014 - الملخص التنفيذي

الملخص التنفيذي

 

لعل من أهم دروس الإنتفاضات العربية هو تذكير المتابع بأن المجتمعات في تحول دائم. فما هو إذن الإتجاه الذي تسير فيه مجتمعات دول مجلس التعاون؟ ما هي التحديات التي تواجهها هذه المجتمعات، و ما هي السبل لتجاوزها؟ يقع هذا النقاش في صلب الإصدار الإستراتيجي السنوي لمركز الخليج لسياسات التنمية، و الذي صدر العدد الثاني منه تحت عنوان "الثابت و المتحول 2014: الخليج ما بين الشقاق المجتمعي و ترابط المال و السلطة".

 

انصب في هذا الإصدار مجهود اكثر من عشرين باحثًا و باحثة من مواطني دول مجلس التعاون، انطلاقا من مبدأ أن "أهل مكة ادرى بشعابها"، للبحث في التطورات في  أوجه الخلل المزمنة التي تعاني منها مجتمعات الخليج. وتتلخص في الخلل السياسي القائم على الدور المهمش للشعب في صنع القرار، و الخلل الإقتصادي الكامن في الإعتمادية على إيرادات النفط كمصدر رئيسي للدخل والإقتصاد، و الخلل الأمني المتمثل في الإعتماد على دول أجنبية لتوفير الحماية العسكرية والأمنية، والخلل السكاني المتمثل في مجتمع يُشكل فيه وافدون غير مواطنين نسبةً عاليةً من السكان ومن قدرات المجتمع الاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعية، لفترةٍ ممتدّة ومتّصلةٍ من الزمن.

 

ما وجده هذا الجهد البحثي هو ان أوجه الخلل في جدلية مستمرة، فعلى الرغم من أنها آخذة في الترسخ في مجتمعات الخليج، إلا أن تناقضاتها بدأت تفرز تحولات عميقة في بنية المجتمعات. فمن جهة تتجه قوى السلطة السياسية إلى تعميق نفوذها، حيث نجد ترابطا وثيقا ما بين السلطة و رؤوس الأموال ، بحيث يتبادر إلى الذهن وصف الدكتور محمد غباش ل"سلطة اكثر من مطلقة و شعب أقل من عاجز". في المقابل فإن شبح الانقسامات الأهلية، من عصبيات طائفية وقبلية ومناطقية وغيرها، او ما أسميناه، إجمالا، بالشقاق المجتمعي، قد بدأ يتجلى بشكل أكثر حدية.

 

الخلل السياسي

 

يتميز القسم السياسي من هذا الإصدار بتركيزه على موضوع الشقاق المجتمعي، حيث ركزت  ملفات المستجدات السياسية الخاصة بكل بلد على وصف التركيبة الإجتماعية في كل حالة و نقل ابرز الاحتقانات الداخلية فيها. هذا بالإضافة إلى رصد اهم المستجدات على الساحة السياسية المحلية على مدى عامي 2013-2014. وقد تم تخصيص ملف معمق لدراسة حالة الشقاق المجتمعي في الخليج عن طريق استقصاء آراء عينة عشوائية (random sample) من مواطني أربعة من دول المجلس (المملكة العربية السعودية و مملكة البحرين و دولة الكويت و سلطنة عمان) حول مسألة الطائفية كنموذج للشقاق المجتمعي.

 

تطرق الإستطلاع إلى عدة مسائل جوهرية على  المستوى المحلي والخليجي والعربي. عربياً، ركزت الدراسة على الإصطفاف الطائفي حيال الأزمات السياسية التي تعصف بالمنطقة. أما محلياً، فتطرقنا إلى المسائل التي من شأنها ان تقوض الإحساس بالمواطنة الكاملة والمساواة ما بين المواطنين، حيث رصدنا، مثلا، حالات من التمييز الطائفي حسب الآراء التي ادلى بها المشاركين. أتت نتائج الإستطلاع لُتظهر عدة تناقضات. فمن جهة، أكد الإستطلاع على وجود فروقات جوهرية بناء على الانتماء الطائفي في دول المجلس، وأن الإصطفاف الطائفي هو جزء من الواقع السياسي و الاجتماعي الذي تعيشه دول المجلس. فبغض النظر عن البلد الذي ينتمي اليه المشارك او حتى الأيديولوجيا السياسية، نجد، كمثال، بان الانتماء الطائفي هو أحد المحددات الأهم للموقف السياسي حيال القضايا الإقليمية كالحرب في العراق وسوريا.  

 

على المستوى المحلي، أتت النتائج لتبّين تفاوت التشنجات الطائفية بين دولة وأخرى، حيث كانت أشدها في البحرين وأقلها وطأة في عمان. كما كشفت النتائج أن المنتمين للتيارات الإسلامية من الطائفتين السنية و الشيعية هم اكثر تشبتاً بالهوية المذهبية والمؤسسات الدينية التابعة لها. من جهتهم قلل المنتمون الى التيارات السياسية المدنية من أهمية الهوية المذهبية بالنسبة لهم، الا انهم لا زالوا منقسمين حول القضايا الإقليمية و لكن بدرجة اقل نسبياً من الاسلاميين، مما قد يدل على تغلغل المنطق الطائفي ما بين شريحة واسعة من العينة.

 

ولكن في المقابل، بينت النتائج أن شعوب المنطقة لا زالت تعطي الأهمية الكبرى للهويات العربية والإسلامية والوطنية في مقابل الهويات الفرعية كالطائفة والإثنية، مما قد قد يدل على أن الفرصة لا زالت سانحة للنهوض بمبدأ المواطنة الذي يقوم على المساواة الكاملة ما بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات.

 

الخلل الاقتصادي

 

يتمثل الخلل الإنتاجي-الإقتصادي في الاعتماد المُطلق، والمُتزايد، على ريع صادرات الثّروة الطبيعيّة المعرَّضة للنضوب، وهي النّفط الخام (الزيت والغاز الطبيعي)، الأمر الذي يضع شعوب المنطقة تحت رحمة السوق العالمية للنفط. يعاني هذا النمط الإقتصادي من قصر النظر، إذ ان الثروة النفطية ناضبة بطبيعتها و أسعار السلع العالمية تتقلب مع مرور الزمن. ونظراً للموقع المركزي الذي يتبوأه النفط في إقتصادات دول المجلس، خصصنا ملفاً معمقاً لدراسة قطاع النفط والغاز، بما فيها عمليات الإنتاج والتصدير والتسويق، بالإضافة إلى دراسة المتغيرات التي طرأت على هذه الصناعة.

 

تعي حكومات دول المجلس ضرورة تغيير نهج الإعتماد شبه الكلي على ريع النفط، الأمر الذي دفع عدد منها لتقديم رؤى إقتصادية تهدف إلى تنويع مصادر الدخل و التحول إلى نمط تنموي غير نفطي، كرؤية البحرين الإقتصادية 2030 و رؤية أبوظبي 2030. وقد قمنا بتحليل هذه الرؤى في أحد ملفات القسم الإقتصادي، حيث وجدنا ان الأيديولوجيا المسماة بالنيوليبرالية، و التي تقوم على تقليص الدور الإقتصادي للقطاع العام ورفع ضوابط الدولة وقيودها عن رأس المال الخاص قدر المستطاع، هو النمط الأيديولوجي المهيمن على هذه الرؤى المستقبلية للتنمية. وفي مقابل تمكين رجال الأعمال في القطاع الخاص، لا توجد نظرة موازية تهتم بحقوق عامة الشعب الإقتصادية و الإجتماعية هذا ناهيك عن خلو الرؤى، التي لم تستشر شعوب المعنية فيها، من اي إشارة للتنمية السياسية التي تعتمد على إشراك المواطنين في صنع القرار.

 

تدفعنا التوجهات الرسمية تجاه الخصخصة، كما جاء في مضمون الرؤى التنموية، إلى فرد ملفاً معقماً أخرا للبحث في القطاع المصرفي و التحديات التي تواجهه، حيث يمثل هذا القطاع إحدى الأعمدة الرئيسية لكل الرؤى الإقتصادية لدول المنطقة.  وقد وجدت الدراسة، التي اتخذت البحرين و قطر كنماذج، ان القطاع المصرفي، كباقي القطاعات الإقتصادية، مرتهن بارتباطه الوثيق بعائدات النفط ودعم الدولة والقطاع العقاري. فتهيمن الحكومات على ملكية البنوك المحلية، وتتدخل البنوك المركزية لدعم القطاع المصرفي.

 

يبحث ملف آخر في مدى ترابط السلطة السياسية، ممثلة بالقطاع العام وأفراد من العوائل الحاكمة ونواب ووزراء سابقين، مع القطاع الخاص، حيث تم دراسة تركيبة ملكية رأس المال في أسواق الأسهم المالية في الكويت و المملكة العربية السعودية و قطر. وعلى الرغم من تفاوت تملك السلطة السياسية  للمال الخاص في كل دولة، إلا أن نتائج الدراسة تبين أن الظاهرة هي سمة بارزة في جميع الحالات المدروسة. ففي الكويت بلغت نسبة ملكية القطاع العام في الشركات المدرجة في السوق المالي 12% بينما وصلت هذه النسبة إلى 19% في قطر و 40% في المملكة العربية السعودية. وبلغت نسبة ملكية الأسرة الحاكمة المعلنة في الشركات المدرجة في السوق المالي 8% في الكويت، بينما وصلت هذه النسبة إلى 13% في المملكة العربية السعودية و 36% في قطر.

 

الخلل الأمني

 

يتمثل جوهر الخلل الأمني في عدم مقدرة دول المجلس على الدّفاع عن نفسها وتأمين الاكتفاء الذاتي من الحماية العسكرية، وذلك لأسبابٍ تتعلّق بصغر وضعف كلٌّ من دول المنطقة منفردةً. وهو الأمر الذي جعلَ كلا منها تجد "أمنها" في التّحالف مع دول عظمى، وإعطائها تسهيلات عسكريّة من أجل حماية نفسها. يبين هذا العدد إستمرارية هذا الخلل، حيث لا زال هناك ما يفوق  50,000 عنصر من القوات المسلحة الأجنبية في الخليج. وفي مقابل هذا الضعف المزمن في تزويد الحماية الأمنية، إلا أنه لا زالت دول المجلس أكثر الدول انفاقا على التسلح عالمياً، حيث يتجاوز مجموع الإنفاق العسكري مثيله في بريطانيا و إسرائيل مجتمعين.

 

يركز هذا الإصدار على دراسة محددات العلاقة الخليجية المصرية، نظراً لأهمية الأحداث على الساحة المصرية  وإنعكاساتها في دول الخليج.  وقد ركز الإصدار تحديداً على علاقة تنظيم الإخوان المسلمين مع الخليج، بالإضافة إلى لإستثمارات من الخليج في مصر، والعمالة الوافدة المصرية،  والمؤسسة العسكرية المصرية. تطرق هذا الملف لهذه العلاقات على مر الحبات التاريخية الحديثة  وصولاً إلى الفترة الراهنة، حيث تتجه كتلة من دول المجلس إلى دعم المؤسسة العسكرية، في مقابل دعم قطر للإخوان المسلمين، ليستنتج هذا القسم بأن محاولة دول الخليج لحسم النزاعات داخل مصر لصالح  احد الأطراف السياسية على حساب غيرها سينعكس سلبا على الواقع المصري من جهة و العلاقات الخليجية – الخليجية من جهة أخرى.

 

الخلل السكاني

 

يمثل الوافدون الكتلة السكانية والعمالية الأكبر في أغلبية دول مجلس التعاون، مما قلل من الأهمية التاريخية للمواطنين كعنصر إنتاجي في هذه الدول. وتشير آخر الإحصائيات إلى أن أعداد الوافدين لازالت في إزدياد، حيث بلغ إجمالي سكان دول مجلس التعاون عام 2013 نحو 49.3 مليون نسمة بحسب الإحصائيات الرسمية، وبلغ متوسط نمو السكان في المنطقة 3.9% عن العام الذي سبقه. ولا يزال الوافدون يشكلون نسبة عالية (48%) من إجمالي سكان دول مجلس التعاون. وتسجّل السعودية أقلّ نسبة من الوافدين (32%)، فيما تسجّل الإمارات النسبة الأعلى (89%). وتشير البيانات إلى أن إجمالي العاملين في دول مجلس التعاون بلغ 20.5 مليون عامل وعاملة في 2013، بزيادة بلغت 8.47% عن السنة التي سبقتها. و يشكل الوافدون 69% من إجمالي سوق العمل في عام 2013، ويتركزون في القطاع الخاص، بينما يتركز المواطنون في القطاع الحكومي الذي يوفر للعامل دخلًا أعلى وأمانًا وظيفيًا. 

 

بحث هذا القسم من الإصدار في طبيعة نظام الكفالة، نظرا لكونه الإطار الرئيسي الذي ينظم تدفق الوافدين إلى المنطقة. و لعل اهم الأسئلة التي طرحها الملف هو طبيعة هذا نظام كوسيلة لترسيخ الإقصاء والتبعية السياسية والإقتصادية عند الوافدين والمواطنين معاْ عن طريق وظيفته لتوزيع الريع وعلاقته بتجديد شرعية هياكل السلطة السياسية والإقتصادية والإجتماعية في دول المجلس.

 

ختاماً، يحاول الإصدار ربط المستجدات في أوجه الخلل المزمنة معاً، ، فالشقاق المجتمعي وترابط المال والسلطة، هي أعراض لمرض غياب مشروع الدولة في مقابل تفشي مشروع الحكم، ومشروع الحكم همه وهدفه البقاء لأطول مدة ممكنة في السلطة، ووسيلته توزيع موارد الدولة لشراء الولاءات بدلاً من تنمية تلك الموارد لصالح الجميع ولحماية المستقبل. فعندما يفشل الفرد في الاحتماء بسيادة القانون، تفشل الدولة، ولا يعود معها ممكناً أن نتوقع تحقق نجاح لأي مشروع تنمية. فعندما يتراخى حكم القانون، يذوب مفهوم المواطنة بتعريفها الشامل، ويتحول الإنسان، إما للاحتماء بالعصبيات الصغيرة، مثل العائلة أو الطائفة أو القبيلة أو المنطقة، أو ينظم عضواً، ناشطاً أو هامشياَ، إلى تجمعات المصالح. ولا علاج من أعراض الأمراض التي سطرها الكتاب سوى بالانتصار لمشروع الدولة على حساب مشروع الحكم، أما البديل، طال أو قصر الزمن، فهو تكرار المواجهات والاحتجاجات، وآخرها الإنتفاضات التي شهدها العالم العربي منذ عام 2011.



الأفكار الواردة في الأوراق والمداخلات والتعقيبات لا تعبر عن رأي الموقع وإنما عن رأي أصحابها