يتمثل الخلل الإنتاجي في "الإعتماد المُطلق، والمُتزايد، على ريع صادرات الثّروة الطبيعيّة المعرَّضة للنضوب، وهي النّفط الخام (الزيت والغاز الطبيعي). ومن المعروف أنّ مصدر مختلف أنواع الدّخل الرئيسية في دول المنطقة هو الريع النّفطي، والناتج من إرتفاع سعر النفط عشرات المرات بالمقارنة مع تكاليف إنتاجه، وهو خللٌ يتجلّى في تركيب النّاتج المحلّي الإجمالي وسائر الحسابات القوميّة الأخرى، لأن مصدر هذه المداخيل هو ريع تصدير ثروة طبيعية "ناضبة"، وليس إنتاجية الأفراد والمؤسسات، كما هو الحال في الإقتصاد الإنتاجي.

ونتيجة لعدم رغبة - وربما عدم قُدرة - كلّ من دول المنطقة مُنفردة على تبنّي سياسة نفطيّة وطنيّة تخضع بموجبها صادرات النفط لإعتبارات التّنمية، فقد تمّت تلبيتها للطلب العالمي على النّفط بشكلٍ تلقائي، من دون أدنى إعتبار للقدرة الإستيعابيّة أو الطّبيعة النّاضبة للثّروة النّفطيّة. وبذلك تزايد الإعتماد على ريع النفط منذ عقود، وأصبح هذا الرّيع هو المصدر لإيرادات الموازنة العامة، وميزان المدفوعات، والإستثمارات العامة، وسائر الحسابات القوميّة الأخرى."[1]

هكذا عرّفنا الخلل الإنتاجي - الإقتصادي في النسخة الأولى من هذا الإصدار، ولا يزال هذا الخلل هو السمة الطاغية على إقتصاديات دول المجلس. ولا يلغي هذا الخلل أن دول مجلس التعاون تتمتع بدخل عالٍ نسبيًا، حيث تتبوأ كل هذه الدول مناصب متقدمة

نسبيًا على مستوى العالم من ناحية الدخل والقوة الشرائية.

فقد شهدت دول مجلس التعاون نموًا في الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية لسنة 2013 بنحو 3.25% عن السنة السابقة. وسجّلت البحرين أعلى معدل نمو (6.14%)، بينما شهدت الكويت النسبة الأقل (0.42%).[2] لكن البيانات تختلف حين نحسب الناتج المحلي الفردي بالأسعار الجارية، حيث بلغ متوسط النمو -0.62% في 2013 نتيجة تجاوز نمو السكان نمو الناتج المحلي الإجمالي، مما جعل قطر تشهد أقل نمو في الناتج المحلي الفردي بنحو -4.29%، بينما شهدت البحرين أعلى نسبة نمو في الناتج المحلي الفردي بنحو 4.05% عن السنة السابقة.[3] فبناء على هذه النسب، نرى أن نمو الناتج المحلي الإجمالي يأتي من جانب الطلب نتيجة نمو معدل السكان الذي يزيد قوة العمل المتواجدة ومعدل الاستهلاك.


ويبقى القطاع النفطي هو العمود الفقري لإقتصاديات دول مجلس التعاون، حيث تشكل المنطقة 23.5% من الإنتاج العالمي للنفط. وبلغ إجمالي إنتاج النفط عام 2012 في دول مجلس التعاون 17.1 مليون برميل في اليوم، مرتفعًا بنحو 5.4% عن السنة السابقة.[4] بينما بلغ إجمالي الصادرات النفطية لدول مجلس التعاون للسنة نفسها 13.6 مليون برميل في 2012، حيث نمت بنحو 7.5% عن السنة السابقة. وتشكل الصادرات النفطية لدول مجلس التعاون 33.7% من إجمالي الصادرات النفطية العالمية.[5] فلا تزال دول مجلس التعاون تستحوذ على النسبة الكبرى من صادرات النفط العالمية، مما يجعل إقتصادياتها وإيراداتها الحكومية عرضة لتقلبات أسعار النفط العالمية. ونظرًا إلى محورية هذا القطاع، فإننا نفرد ملفًا خاصًا لمناقشة طبيعة وهيكلية الإنتاج في قطاع النفط والغاز في المنطقة، في محاولة للوصول إلى فهم أفضل لأهم العوامل التي توثر في إنتاجه وبيعه وتسويقه.

ومن البديهي أن دول المجلس لا تزال تعتمد بشكل شبه كلي على الإيرادات النفطية في ميزانياتها. وقد أدى إنخفاض أسعار النفط العالمية إلى تراجع الإيرادات العامة في دول المجلس عام 2013، فبلغ متوسط نمو الإيرادات لسنة 2013 -1% عن العام السابق، مما جعل السعودية تشهد أكبر إنخفاض بنسبة -10%، فيما شهدت قطر أكبر نمو في الإيرادات العامة بنحو 9%.[6]

وقد شهدت دول مجلس التعاون إرتفاعًا ملحوظًا عامًا في المصروفات العامة في ما عدا البحرين، حيث بلغ متوسط نمو المصروفات 6% لعام 2013. وقد شهدت الإمارات أكبر نمو بنحو 17%، بينما شهدت البحرين إنكماشًا في المصروفات بنحو -2%، إلا أن الأخيرة باتت تواجه عجزًا عاليًا في الميزانية ونسبة دين عام تعتبر مرتفعة بالنسبة إلى دولة مصدّرة للنفط.[7]

وتكمن خطورة إرتفاع مستوى المصروفات العامة في أن أغلبيتها تشكل مصروفات جارية على هيئة أجور موظفين،. ولم تعد الأسعار العالية للنفط تغطي إحتياجات دول مجلس التعاون المالية في شكل مريح نتيجة تفاقم هذه المصروفات. ويبدو أن المستقبل قد يشير إلى مصاعب وتحديات متصاعدة لهذه الدول، فكيف ستواجه الضغوطات في الموازنة ما بين تلبية مطالب الشعب وتفعيل التنمية الإقتصادية الحقة؟

كبداية، وللإجابة عن هذا السؤال، يصبح أمرًا ملحًا تحليل الأجندة التنموية لهذه الدول، وما هي الأهداف والتطلعات الإقتصادية التي رسمتها حكوماتها. لذلك، فإننا نركز في أحد الملفات المعمّقة في هذا الإصدار على تحليل الرؤى الإقتصادية التي رسمتها هذه الدول، خصوصًا في أربع منها هي الكويت والإمارات والبحرين وقطر. وبما أن تنمية القطاع المصرفي تمثل عمودًا رئيسيًا في كل هذه الرؤى، فإننا نفرد ملفًا آخر لتحليل القطاعات المصرفية في المنطقة، لا سيما في دولتي البحرين وقطر.

ينصبّ جزء رئيسي من تركيز هذه الخطط التنموية على "تعزيز دور القطاع الخاص" في إقتصاديات المنطقة. لكن ماذا نعني بـ "القطاع الخاص" عند الحديث عن دول مجلس التعاون، وما هي طبيعة هذا القطاع وتركيبته، خصوصًا من ناحية علاقته بالسلطة والنفوذ السياسي؟ يصبح هذا السؤال محوريًا، خصوصًا أن التشابك بين السلطتين السياسية والإقتصادية عال ومركّز في المنطقة. لذلك، فإننا نخصص ملفًا خاصًا لتحليل مسألة التشابك بين السلطة السياسية والمال الخاص، خصوصًا في الشركات المدرجة في أسواق الأسهم في السعودية وقطر والكويت. وكما كان الحال في الإصدار السابق، فإننا نفرد لكل دولة قسمًا لمناقشة أهم المستجدات الإقتصادية على مدى عامي 2013 و 2014، ونركز عند تحليل هذه المستجدّات على تبيان بعض أوجه التشابك بين السلطة السياسية والقطاع الخاص في كل من دول المجلس.

 

 

لقراءة الجزء التالي من الاصدار

لقراءة النسخة الكاملة من الاصدار (pdf)

لتصفح محتويات الاصدار الكترونيا

 

 

 

[1] ضع مرجع للنسخة السابقة من الإصدار.

[2] World Economic Outlook Database, International Monetary Fund, April 2014. >http://www.imf.org/external/pubs/ft/weo/2014/01/weodata/index.aspx<

[3] المصدر نفسه

[4] “3.7 World Crude Oil Production by Country,” Annual Statistical Bulletin 2013, Organization of the Petroleum Exporting Countries. >http://www.opec.org/opec_web/static_files_project/media/downloads/publications/ASB2013.pdf<

[5] “3.18 World Crude Oil Exports by Country,” Annual Statistical Bulletin 2013, Organization of the Petroleum Exporting Countries. >http://www.opec.org/opec_web/static_files_project/media/downloads/publications/ASB2013.pdf<

[6] المصدر نفسه

[7] World Economic Outlook Database, International Monetary Fund, April 2014. >http://www.imf.org/external/pubs/ft/weo/2014/01/weodata/index.aspx<



الأفكار الواردة في الأوراق والمداخلات والتعقيبات لا تعبر عن رأي الموقع وإنما عن رأي أصحابها