الثابت والمتحول 2014: الخليج ما بين الشقاق المجتمعي وترابط المال والسلطة
6. خاتمة
-
الزيارات: 1421
في كتاب[1] صدر في عام 2012 يحمل اسم "لماذا تفشل الأمم؟ Why Nations Fail?" يبدأ الكاتبان بإسقاط لفكرة الكتاب على مدينة نوغاليس -Nogales- على حدود ولاية أريزونا الأمريكية مع المكسيك. المدينة نفسها مقسومة، نصفها أمريكي ونصفها الآخر مكسيكي. ويقارن الكاتبان ما بين أوضاع سكان النصف الأمريكي المتفوقين دخلاً وتعليماً وأماناً عن أقرانهم من نفس العائلات في الجانب المكسيكي الفقراء ضعاف التعليم ويحكم ليلهم العصابات، وينسبون الفارق إلى أن الأمريكي في تلك المدينة مواطن نشأ في دولة تبنت حكم المؤسسات والقانون منذ تأسيسها. ويعقد الكاتبان مقارنة بين أكثر اثنين ثراء، بيل غيتس في الولايات المتحدة الأمريكية وكارلوس سليم في المكسيك، وكيف أن الأول جمع ثروته بالخلق والإبداع وضمن الالتزام الكامل بالقوانين والنظم، بينما الثاني جمعها بشراء السياسيين أو بمعنى آخر بخرق القانون والقيم.
والكتاب الذي قرأنا للتو "الثابت والمتحول"، لا يخرج عن نفس المفهوم، فالشقاق المجتمعي وترابط المال والسلطة، هي أعراض لمرض غياب المؤسسات وحكم القانون، وهي أعراض لا يقتصر وجودها، على جنس أو لون أو قارة، وإنما هي أعراض لمرض على مستوى العالم، كان ذلك صحيحاً من قراءة التاريخ، وهو صحيح في عالمنا المعاصر. فعندما يفشل الفرد عن الاحتماء بسيادة القانون، تفشل الدولة، ولا يعود معها ممكناً أن نتوقع تحقق نجاح لأي مشروع تنمية. فعندما يتراخى حكم القانون، يذوب مفهوم المواطنة بتعريفها الشامل، ويتحول الإنسان، إما للاحتماء بالعصبيات الصغيرة، مثل العائلة أو الطائفة أو القبيلة أو المنطقة، أو ينظم عضواً، ناشطاً أو هامشياَ، إلى تجمعات المصالح، وغالبيتها فاسدة.
وتختزل الدولة في مشروع حكم، ومشروع الحكم همه وهدفه البقاء لأطول مدة ممكنة في السلطة، ووسيلته توزيع موارد الدولة لشراء الولاءات بدلاً من تنمية تلك الموارد لصالح الجميع ولحماية المستقبل، ولا فرق في ذلك بين دولة غنية وأخرى فقيرة، الفارق هو في قيمة المكافأة أو الجائزة. ولا حرمة لكيان الدولة، فإن كان إطالة أمد الحكم يتطلب تأصيل الشقاق بين مكونات المجتمع لإضعافها جميعاً، لا بأس بذلك، فتارة يستقوى بتلك الفئة، ثم ينبذها إن اشتد ساعدها أو إن وجد بديلاً أفضل. وإذا كان الولاء لمشروع الحكم يشترى بالفساد أو التسامح مع الفساد، فالمكافأة سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة مثل التقاضي عن الفساد، هي بمثابة الجزرة من أجل تأصيل الولاءات، وتلك قيم مناقضة تماماً لأي مشروع تنمية.
ومن خصائص مشروع الحكم، الإدارة بالولاء على حساب الأداء أو الكفاءة، بمعنى، أن توزيع المناصب القيادية في الدولة أو في مؤسساتها الهامة التابعة، يقدم معيار الولاء للمكافأة بتلك المناصب. وفي الغالب الأعم، هناك علاقة طردية ما بين الولاء وسوء الأداء أو ضعف الكفاءة، لذلك، تعجز الإدارة العامة عن فهم ومواكبة متطلبات تعزيز كيان الدولة وصناعة المستقبل، وبمرور الزمن تترهل تلك الإدارات، ويصبح المنصب والمؤسسة نصيب لتلك الفئة من مشروع الاقتسام. وتدريجياً، تأخذ المؤسسات صبغة التفكك المجتمعي، فالأصل في بلوغ المنصب هي معايير ما دون المواطنة، أي العائلة والمنطقة والقبيلة والطائفة، ومعها تنعكس أسس التفتيت على مؤسسات الدولة، وينتصر كل مسئول إلى عصبيته.
وتنزع مشروعات الحكم إلى تعزيز الأمن بمفهومه الضيق، أو العصا، والعصا الغليظة كلما شحت الموارد، لتطويع من تعجز عن إغوائه بالجزرة، ولشراء ولاء أجهزة الأمن تكاليف مضخمة تهدر من موارد الدولة. وتلك الأجهزة لا تنحرف فقط بسبب عنصر القوة والحظوة وعنصر السرية في مصروفاتها، وإنما تنحرف في أهدافها، فالأمن الوطني الذي يفترض فيها أن تحميه، يختزل في أمن الحكم، حتى لو تعارض مع أمن الدولة، والواقع أنه يتعارض كلية مع أمن الدولة. فجهود أجهزة الأمن تتحول كلية إلى معارضي الداخل، وحمايته تتحول كلية إلى فاسدي الداخل، فالأصل في التمييز لحماية الأمن، ليس هو الولاء للوطن، لكن الحفاظ على الوضع القائم، بمساوئه، من فساد تفتيت المواطنة، ومن فساد الإدارة العامة، ومن فساد للذمم. وتتحول تلك الأجهزة الأمنية إلى طاردة لأفضل عناصرها، بالإقصاء أو بالإغواء، وتتحول في بعض الدول إلى دول قائمة بذاتها، ولاءها مرتبط بديمومة إمتيازاتها غير المستحقة.
"إبراهام لينكولن" الذي حافظ على تماسك الولايات المتحدة الأمريكية إبان حربها الأهلية في ستينات القرن التاسع عشر، قال مرة، أن الدولة هي الأرض والشعب والقانون، أو الموارد والعقل والقانون، فالأرض والشعب وحدهما لا يصنعان دولة. وعجينة بناء الدولة هي توظيف أفضل عقولها في عملية توظيف مواردها من أجل مصلحة شعبها، بما يعزز مفهوم المواطنة الشاملة، ذلك يعني حكماً ذوبان العصبيات الصغيرة في كيان الدولة، ويعني الإدارة بالأداء، ويعني تجريم إهدار الموارد بالفساد والإفساد. لذلك، لا علاج من أعراض الأمراض التي سطرها الكتاب، في تقديري، سوى بالانتصار لمشروع الدولة على حساب مشروع الحكم، أما البديل، طال أو قصر الزمن، فهو تكرار المواجهات والاحتجاجات، وآخرها، الإنتفاضات التي شهدها العالم العربي منذ عام 2011.