كتب الروائي الراحل السعودي عبدالرحمن منيف رائعته "مدن الملح" في ثمانينيات القرن الماضي ، والتي تم منعها في بعض دول الخليج. ولو كان الأمر في تحكمي، لجعلت "مدن الملح" المادة الرئيسية في مناهج التاريخ الدراسية في دول المنطقة، لأنها ببساطة افضل ما حاكى واقع الخليج وشبه الجزيرة العربية في عصر النفط، العصر الأبرز في تاريخها منذ بزوغ الاسلام.

ليس بطل مدن الملح شخص او اثنان، بل هو المكان، المدينة، المساحة، وتغيرها ومن يأهلها على امتداد عصر النفط. تبدأ القصة بوادي العيون، تلك القرية الواحة التي تجسد الحياة في عصر ما قبل النفط، وكيف تغيرت وسكانها مع اكتشاف الذهب الاسود. ثم تنتقل الرواية الى حران، مدينة جديدة كليا بنيت على ضفاف الخليج العربي لتحتضن الصناعة النفطية. بعدها يأخذنا منيف الى موران، عاصمة الدولة، لنتبع دهاليز الحكم والسياسة والطبقة المستفيدة التي تشكلت حولهما.

رغم الاسماء الخيالية لهذه المدن، فليس بخفي على احد ان منيف بناها على مدن في السعودية، بل أنها قد تنطبق على التاريخ المعاصر لاغلب المدن في الخليج. الرواية في الاساس هي قصة ساكني هذه المدن، وكيف تأقلموا وتغيروا مع التحولات الجذرية التي هزت المجتمع مع قدوم الصناعة النفطية وتدفق الايرادات منها.

على مدى السنتين الماضيتين، استهوتني قضية المدينة والمساحة في الخليج العربي، فهي اكثر ما يتفاعل معها الشخص بشكل مباشر في حياته اليومية. فهي المكان الذي يعيش فيه، ويعمل، ويأكل، وينام، ويحب، ويموت. مما لا شك فيه ان مدن دول الخليج العربية تحولت تحولا هائلا على مدى العقود التي يصورها عبدالرحمن منيف في مدن الملح. وهذه التحولات تبعتها تغيرات جذرية اخرى على مدى العقد الاول من الالفية الثالثة، هذا العقد الاخير الذي احتوى على الطفرة النفطية من 2001 الى 2008، ومن ثم الازمة المالية العالمية.

هذه التحولات على مدى العقد الاخير هي ما استهوتني في كتابي "اقتلاع الجذور"، وهي محاولة لرصد وفهم التقلبات على مستوى المدينة في دول الخليج في هذه الفترة. التحولات كانت واسعة في ناطقة، شاملة في نطاقها الطبيعة والبشر والمادة. ما شدني بداية لموضوع المدينة في الخليج العربي هو ما كان يحصل في بلدي الأم البحرين، ولم يكن لما يحصل في البحرين يختلف كثيرا عن باقي دول الخليج. على مدى هذه السنوات العشر، برزت في البحرين ظاهرة غريبة تمثلت في ردم البحر، او ما يسمى محليا "بالدفان"، حيث يدفن البحر بالرمال الى مثواه الأخير بلا عودة لتشكيل اراضي عذراء للاستثمار الاقتصادي في مكانه. رغم ان ظاهرة ردم البحر ليست بجديدة، الا انها اخذت في البحرين شكلا كان من الصعب فهمه. على مدى هذه العشر السنوات، تم ردم اكثر من 60 كم من بحر الدولة، اي ما يوازي حوالي 10% من مساحة يابسة البحرين الاصلية. هذا الحجم الهائل من الردم حصل في جزيرة اعتمدت على البحر كموردها الرئيس لمئات بل آلاف السنين (فالبحر للبحرين كان بمثابة النيل لمصر)، وفي غضون سنوات معدودة تم قتل جزء ليس بيسير منه. صودرت الاراضي الناتجة من هذا الردم الى قلة متنفذة منتفعة، ومن بعدها تم تسويق هذه الاراضي لبناء لمشاريع خاصة، مثلت في كثير من الاحيان مدن جديدة كليا تعد قاطنيها المقتدرين بالفخامة والراحة الخالدة. و شاءت سخرية الاقدار بان تم التسويق والتهليل لهذا الردم والمشاريع التي بنيت عليه وكأنها عمل رائع وحكيم بل هو اساس التنمية الحميدة للدولة.

معالم المدينة تغيرت في البحرين بلا عودة، فمن مدن وقرى كان البحر اساسها، اصبح الشاطئ مكونا غير مألوفا وغريبا على أغلب سكان الجزيرة. اضحى البحر بعيدا، ومنعت الاغلبية من الوصول اليه، اللهم الا الطبقة الميسورة التي تستطيع ان تدفع للدخول او سكن هذه المدن الخاصة والمجتمعات المغلقة التي برزت في مكان البحر.

ومع زوال البحر، اختفت معه حرف واعمال عرفت بها البحرين لقرون، حتى سميت عوائلها بالنهام والطواش والقلاف والغواص والسماك تيمنا بهذه المهن. وتحولت مع ردم البحر طريقة حياة وتفاعل المجتمع، وطرأ تحول عميق طال اليم والمدينة والانسان، وهذا الاخير سيكون محور حديثنا في المقال القادم.
 

 

 

 

لقراءة المقال السابق .. اضغط هنا



الأفكار الواردة في الأوراق والمداخلات والتعقيبات لا تعبر عن رأي الموقع وإنما عن رأي أصحابها