من المظاهر الاكثر دلالة على  الاستئثار بالسلطة في اية مجتمع هو تفشي "الفساد الكبير"، ونعني هنا بالفساد الكبير ذلك الفساد المتمركز في القسم الاعلى من هرم السلطة. العوائد النفطية الهائلة في دول مجلس التعاون خلقت تناقضا غريبا على مدى العقود الماضية. فالطفرات في اسعار النفط  بلورت في دولنا فسادا  كبيرا تخطى في كمه ونسبته اية مقارنة مع باقي دول العالم، فتمكن المتنفذين من تجميع ثروات هائلة تعذر احصاءها نظرا لانعدام الرقابة ولهول حجمها، والتي من شبه المؤكد انها تعدت مئات البلايين من الدولارات.

لكن العوائد الهائلة من النفط سمحت لدول المجلس في الوقت ذاته بتقديم خدمات  متقدمة نسبيا على المستوى العالمي لمواطنيها ، بما في ذلك من ناحية السكن والبنية التحتية والصحة والتعليم. اسَس هذا التناقض عقدا غير مكتوبا في الدولة الريعية: على الدولة توفير الخدمات المتقدمة والرفاهية لمواطنيها، في المقابل يحصل متخذي القرار على الولاء من المواطنين وعدم تعرضهم للمسائلة او المعارضة. هذا التضاد ، بين الفساد الكبير المستفحل من جهة والمقدرة على تقديم دولة ريعية متقدمة من جهة اخرى، جعل الفساد الكبير ظاهرة معروفة في المجتمع ولكنها مسكوتا عنها طالما تواصل عقد الدولة الريعية.


في اطروحة الدكتوراه التي اعدها قبل اكثر من اربعة عقود، بين د. علي الكواري ان نسبة ايرادات دول الخليج التي كانت تستقطع للعوائل الحاكمة  منذ النصف الأول من القرن العشرين تقدر بحوالي الثلث.  في دراسة اخرى اعدها وتركزت في الاساس على ايرادات دول الخليج من النفط في 2008، اي في عز الطفرة النفطية الاخيرة، نجد ان ما لا يقل عن الثلث من ايرادات الدولة  من النفط غير مدرجة في الارقام الرسمية. تضاعفت عوائد النفط في غضون نصف القرن الماضي مئات المرات، وبذلك تضاعفت كمية الايرادات المختفية مئات المرات ايضا.  فأغلب الدول، بالرغم من ان عوائدها تقدر بمئات البلايين، لا زالت  تعتبر  ميزانياتها واحتياطها من النفط امورا سرية لا تصلح للنشر!
الفساد الكبير اخذ اشكالا متعددة على مر العقود الماضية، فبعضه تلبس طابع استقطاب الآلاف من عمال ال"فري فيزا" الذين لا حول لهم ولا قوة، وبعضه تمثل في مصادرة نسبة معينة من ارباح اية مشاريع تجارية كبيرة في الدولة. ولكن قد يكون نوع الفساد الكبير الاكثر تأثيرا وغليانا في نفوس المواطنين هو ذلك الذي يرونه  امام ناظريهم، وبالتحديد الفساد المتعلق بالاراضي. فها هي الارض التي كان الناس يتجولون فيها ويستخدمونها مشاعا، هي الآن تسور، ويبنى حولها حائطا. بل ان الأمر وصل الى دفن البحر، ذلك المورد الاساسي التي اعتمدت عليه اغلب شعوب الخليج لعملها وحياتها، ومن بعدها يسور البحر المدفون ويحول الى املاك خاصة. ونحن هنا نتكلم عن مئات الكيلومترات المربعة والتي تقدر بمئات البلايين من الدولارات التي تم الاستيلاء عليها. مهما تم سن قوانين وصفقات واعذار لتبرير مصادرة هذه الاراضي، فإن حقيقة هذه الظاهرة معروفة، فما هو حق لا يمكن طمسه بقوانين جائرة.  في جدة، على جدران احد الاراضي البحرية المصادرة والمسورة، كتب احد الشباب نقشا يقول: "هذا بحر ربّنا".


تفشي الفساد الكبير في دول الخليج ظاهرة معروفة، ولكن ما بودي ان اركز عليه هنا هو انه من غير الممكن ان يواصل الفساد على نفس الوتيرة لأبد الآبدين، وان هذا الفساد الكبير ان لم يتغير سيكون محل تصادم بين المتنفذين والمواطنين. ارقام الدكتور علي الكواري تبين ان الفساد تزايد بشكل هائل على مدى العقود الماضية، ومع تزايد الفساد تتزايد تطلعات المتنفذين والمستفيدين منه. فالمتنفذ الذي كان سيقبل ببيت عريش قبل اكثر من نصف قرن في وسط المدينة القديمة، اصبح الآن يتطلع الى عدة قصور ضخمة، متناثرة بين المدن الاوروبية والامريكية. وقد يتطلع ايضا الى اقتناء مضمار خيول او مطار او حلبة سيارات لل"بريستيج"، فميزانية الدولة ككل قبل اكثر من نصف قرن لا تساوي متطلبات متنفذ واحد لمدة شهر في عصرنا الحالي. وعدد المتنفذين ما انفك يزداد...

متطلبات الشعوب ايضا لن تتقلص، فاعدادها ايضا في نمو، ومن الصعب عليها ان تتقبل تخفيضا في الخدمات والمميزات التي تعودت عليها على مدى العقود الماضية، خاصة عندما تتواصل امام اعينهم حياة الفخامة والبذخ بين اوساط المتنفذين ، فكيف يطلب منهم ان يقتصدوا فيما هو فتات اصلا؟

كل هذا يخلق فجوة بين تطلعات المتنفذين، وتطلعات الشعوب، والموارد المتوفرة. قد تسمح العوائد النفطية الضخمة بتفشي الفساد الكبير و مواصلة عقد الدولة الريعية لفترة معينة. فكما يشير د. علي فخرو في مقالة حديثة، فمن المتوقع ان يتدفق ما يقارب 9 تريليون (اي 9 الف بليون) دولار من عوائد النفط على دول الخليج على مدى الاثني عشرة سنة القادمة. الاشكالية تقع في ان تطلعات المتنفذين والشعوب في مقابل الكعكة المتوفرة لإشباعها تسير في اتجاهات معاكسة. فالمتنفذين تعودوا على مرتبة اجتماعية معينة، تتطلب كمية معينة (هائلة جدا) من المصروفات والموارد، ومن الصعب جدا عليهم ان يستغنوا عن نمط الحياة والمرتبة الاجتماعية التي تعودوا عليها. الشعب ايضا تعود على خدمات ومميزات اجتماعية معينة، ولن يتقبل تقلصها.

في المقابل، فالنفط ثروة ناضبة، ومن غير الممكن  استمرار صرفه على تطلعات الحكام والشعوب الى ابد الآبدين. وبما ان اقتصاديات الخليج لا زالت فعليا غير منتجة على المستوى العالمي في اية قطاعات اخرى غير النفط، ولا يبدو ان هذا الامر سيتغير في المستقبل القريب، فالسيناريو المتوقع ان لم يطرأ تغير جذري في اقتصاديات ومجتمعات المنطقة هو الوصول الى مرحلة تصادم تطلعات الشعوب مع تطلعات الحكام عند بلوغ المرحلة الحرجة في الايرادات النفطية. وقد لا تكون هذه المرحلة بعيدة جدا، فسعر النفط المطلوب لتغطية مصروفات الميزانيات في كثير من دول الخليج قد شارف او تعدى مئة دولار للبرميل, وهذا الرقم في تصاعد مستمر.

وعند الوصول الى هذه المرحلة الحرجة ، فان تواصل الفساد الكبير المتفشي في دول مجلس التعاون سيصبح نقطة تصادم بين من ينتفع منه ومن لا يحصل سوى على الفتات منه.




 

لقراءة المقال السابق .. اضغط هنا

لقراءة المقال التالي .. اضغط هنا



الأفكار الواردة في الأوراق والمداخلات والتعقيبات لا تعبر عن رأي الموقع وإنما عن رأي أصحابها