Reports 2019
- 1 مقدمة: المواطنة في تيارات الخليج
- 2 المواطنة: إشكالات المفهوم والممارسات لدى النخب والتيارات السياسية
- 2.1 مقدمة: إشكالات مفهوم وممارسات المواطنة لدى النخب والتيارات السياسية
- 2.2 المواطنة المثلُومة: محاولة لفهم واقع المواطنة في بلدان الخليج العربية - سعيد الهاشمي
- 2.3 نقيض المواطنة: تاريخ نشوء الحكم المطلق في دول الخليج العربية - عمر الشهابي
- 2.4 المواطنة الدستورية في فكر الحركات الإسلامية السنية والشيعية الخليجية - علي الزميع
- 2.5 المواطنة والقوى الوطنية في البحرين والكويت: تحديات مشروع الدولة الحديثة - غسان الشهابي
- 2.6 بديل البديل: فرص وتحديات المواطنة لدى المجتمع المدني غير التقليدي في دول الخليج العربية - بدر النعيمي
- 3 المستجدات في دول مجلس التعاون
- 3.1 مقدمة: المستجدات في دول مجلس التعاون
- 3.2 المستجدات في المملكة العربية السعودية - فهد محمد
- 3.3 المستجدات في مملكة البحرين - علي فارس
- 3.4 المستجدات في دولة الكويت - نور الشيخ
- 3.5 المستجدات في دولة قطر - هيا الشهواني وحصة المهندي
- 3.6 المستجدات في دولة الإمارات - آلاء الصديق
- 3.7 المستجدات في سلطنة عمان - وضحاء شامس
- 4 خاتمة: نحو المواطنة في تيارات الخليج
الثابت والمتحول 2019: المواطنة في تيارات الخليج
2.3 نقيض المواطنة: تاريخ نشوء الحكم المطلق في دول الخليج العربية - عمر الشهابي
-
الزيارات: 4531
لا يمكن الحديث عن المواطنة في دول الخليج العربية دون التطرق إلى نظام الحكم السياسي القائم فيها.[1] وعلى الرغم من وجود تعاريف متعددة لمفهوم المواطنة، فكما يبين الكواري، فإنها تتفق على وجود حد أدنى لاعتبار دولة ما مراعية لمبدأ المواطنة من عدمه، والذي يتمثل في شرطين اساسيين:
أولهما: زوال وجود مظاهر حكم الفرد أو القلة من الناس، وتحرير الدولة من التبعية لشخص الحاكم. وثانيهما: اعتبار جميع السكان الذين يتمتعون بجنسية الدولة مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، يتمتع كل فرد منهم بحقوق والتزامات مدنية وقانونية متساوية، كما تتوفر ضمانات قانونية وإمكانيات اجتماعية تتيح لكل مواطن حق المشاركة السياسية الفعالة وتولي المناصب العامة. [2]
ما من جديد في القول بأن هذا الحد الأدنى لا يتواجد في دول مجلس التعاون (فيما عدى الكويت نسبياً)، حيث يسيطر بضع أفراد من عائلات حاكمة على أغلب مفاصل السلطة في الدولة، فهذا تشخيص معروف ومتداول بشكل واسع. ولكن ما يهمنا في هذه الورقة هو وصف طبيعة هذه السلطة ومكمنها، وكيفية تطورها عبر الزمن إلى الشكل الذي تتخذه اليوم، بحيث يكون هدفنا هو سرد تاريخ تطور هذا النوع من الحكم في الخليج. وما سنطرحه في هذه الورقة هو أنه يمكن تشخيص طبيعة الحكم الحالي في دول مجلس التعاون كنوع من أنواع الحكم المطلق (absolutism) المحدث نفطياً، وإن هذا النوع من الحكم ليس تقليد متجذر منذ القدم كما هي الصورة النمطية السائدة، بل هو حديث نسبياً على المنطقة وقد برز أساساً في القرن العشرين. وقد تم رسم الإطار العام لهذا النوع من الحكم في الخليج من قبل الاستعمار البريطاني، بناء على ما كان يمارس في إمارات الهند المحلية، وبعدها تطور ليتخذ شكلاً فريداً من نوعه في العالم، إذ بنت كل عائلة حاكمة سلطتها عبر التحكم في مفاصل القوة التالية: الحصول على الدعم والاعتراف من القوى الغربية، والتحكم في إيرادات الدولة النفطية وأوجه إنفاقها، والتحكم في مفاصل الأجهزة البيروقراطية ومؤسسات الدولة، وأخيراً التحكم في الموارد الاقتصادية الحيوية غير النفطية، خصوصاً الأراضي. وطبيعة هذا الحكم المطلق والقوة المتمركزة في العوائل الحاكمة في الخليج تعتبر شبه حصرية في عصرنا الحالي على دول الخليج وبعض الدول الأخرى التي لا تتعدى أصابع اليد. [3]
سنسمي هذا النوع من نظام الحاكم الذي برز في الخليج بالحكم المطلق المحدّث نفطياً ( petro-modernized absolutism)، بحيث قد يكون أدق وصف لدول الخليج من ناحية فنون الحكم هي أنها إمارات محدّثة نفطياً (petro-modernized emirates). وقد اخترنا هذا المصطلح لأنه برأينا يختصر أهم ميزات نظام الحكم في دول الخليج. فدول الخليج في المقام الأول عبارة عن إمارات،[4] تتميز بالحكم المطلق، ولكنه حكم مطلق من طراز محدّث، مبني على نمط بيروقراطيات القرن العشرين، ولذلك يجب التفرقة بينها وبين إمارات الأزمنة السابقة. وندلل على نوع هذه الحداثة عبر إضافة مصطلح النفط، الذي أصبح أهم وقود (بالمعنى الفعلي والمجازي) للحداثة في عصرنا الحالي، وقد اعتمدت هذه الإمارات المحدثة على النفط بشكل أساسي لبناء نفسها. وهذا ما سنبينه في بقية الورقة.
الحكم المطلق: نظرة أولية
تقدم ممالك الحكم المطلق (absolutist monarchies) في أوروبا بين القرنين السادس والثامن عشر النموذج التاريخي الأشهر للحكم المطلق، خصوصاً من ناحية تركيز السلطة في يد حاكم واحد من عائلة معينة. وقد تكون فرنسا الملك لويس الرابع عشر، الذي حكم من 1643 إلى 1715، أشهر مثال على نظام الحكم في الممالك الأوروبية المطلقة.[5] امتازت هذه الممالك بتركيز واحتكار السلطة السياسية فيها بشكل كبير في شخص الملك، الذي يجمع في قبضته غالبية السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بحيث أصبح هو صاحب السيادة (sovereign) الأوحد ضمن حدود الدولة. وشهدت هذه الظاهرة على تطور نوعي في نظام الحكم في أوروبا مقارنة بالحقبة السابقة عليها وهي الحقبة الإقطاعية (feudalism)، التي تميزت بتذبذب نفوذ الحاكم الرسمي كلما ابتعدت المنطقة من المركز واقتربت من الأطراف. فقد كان للبارونات (barons) والإقطاعيين في كل منطقة النفوذ الأكبر في فرض قوتهم وضرائبهم ومتطلباتهم على المناطق الواقعة تحت إدارتهم، وزاد هذا النفوذ كلما ابتعدت منطقتهم عن مركز الحاكم، وإن كانوا إسمياً يقدمون الولاء للحاكم. تغير الحال مع ظهور ممالك الحكم المطلق، بحيث ضعفت قوة الإقطاعيين حتى في المناطق البعيدة، وصعدت قوة الحكم المركزي المتمثلة في شخص الملك ذو السيادة المطلقة على أراضي دولته.
نلاحظ أن طبيعة الحكم في الخليج قريبة من هذا المنظور، خصوصاً من حيث تمركز السلطة السياسية المحلية بشكل شبه مطلق في شخص الحاكم وكبار أفراد العائلة الحاكمة من حوله. ولكن بالطبع علينا أيضاً أن نوضح الفروقات بين طبيعة الحكم المطلق في أوروبا القرن السابع عشر وفي خليج القرن العشرين. ففي دول الخليج كما سنبين، يكمن جزء كبير من قوة الحاكم وطبيعة الحكم المطلق في تحكمه في توزيع إيرادات الدولة، وهي إيرادات نفطية أساساً. وبالطبع لم تكن الممالك في أوروبا تمول عبر النفط،[6] بل كانت تمول عبر الضرائب، ولهذا استعملنا مصطلح الحكم المطلق المحدث نفطياً لتفرقة الوضع في الخليج عنها. بالإضافة إلى ذلك، فهناك اختلاف جوهري آخر، يتمثل في كون الممالك في أوروبا ذات سيادة مستقلة في علاقاتها مع الدول الأخرى، بل أصبح الكثير منها إمبراطوريات وقوى استعمارية ما انفكت تهيمن وتسيطر على قوى وحكومات أخرى. وقد بنيت هذه الإمبراطوريات والدول أساساً عبر جهاز بيروقراطي قوي ومحترف ومدرب، خصوصاً من ناحية الجيش. في المقابل، فإن غالبية دول الخليج عموماً قد وجدت نفسها تحت هيمنة المؤسسات الأجنبية، التي تولت فعلياً رسم حدودها وحمايتها، وما زالت تلعب دوراً محورياً في دعم الأنظمة في الخليج وتشكيل القرارات المصيرية المتعلقة بالمنطقة، مما يضع مفهوم السيادة تحت المجهر، وحري بنا أن نتعمق في هذه النقطة.
تطور مفهوم الدولة النموذجي الحديث أساساً في أوروبا بدءاً من القرن السادس عشر وحتى اليوم. وعادة ما يتم تلخيص صورة الدولة كنمط مثالي فيبري (Weberian ideal type) عبر ربطها بالمؤسسات التي لها الحق في "احتكار أدوات القسر" في منطقة معينة. وقد تشكلت الدولة أساساً في أوروبا بناء على علاقة من الاعتماد المتبادل مع صناعة الحرب، فكما يبين شارلز تيلي (Charles Tilly) في دراسته الشهيرة: "الدولة صنعت الحرب، والحرب صنعت الدولة. إذ كان هناك اعتماد متبادل بين بناء الدولة وصناعة الحرب خلال الفترة التاريخية المحدودة التي أصبحت فيها الدولة-الأمة التنظيم المهيمن في الدول الغربية".[7] وعلى مدى القرون المتتالية من القرن السادس عشر حتى الحرب العالمية الثانية، دخلت الدول في أوروبا في حروب متعددة، تركزت فيما بين بعضها البعض، بحيث أصبحت الحروب والقدرة على شن الحروب هي المعيار الأول والأساسي لأي نظام حكم ناجح. وحتى تخوض هذه الحروب، احتاجت الأنظمة الحاكمة إلى جيوش نظامية ومحترفة، بالإضافة إلى فرض الضرائب على شعوبها لتمويل هذه الجيوش. والاثنان، الجيوش والضرائب، احتاجوا إلى بيروقراطية مركزية محترفة وقوية، تسمح بتدريب الجيش على أعلى مستوى لشن الحروب، بالإضافة إلى تدريب كادر محترف لتولي المالية العامة وجني الضرائب وصرفها، وهذا ما خلق أساس الدولة الحديثة في أوروبا. ويختم تيلي دراسته بالقول بأن الدولة هي عبارة عن "جريمة منظمة" أو مشرعنة، وذلك عائد لتركز دور الدولة الرئيسي – حسب رؤيته – في استعمال القسر في محاربة الدول الأخرى، واستعمال القسر في جباية الضرائب، وفي إرغام المواطنين على الانضمام لصفوف الجيش. وبالطبع واجهت الدول في البداية معارضة لهذه المساعي، التي سابقاً كثيراً ما ارتبطت بالقرصنة وقطاع الطرق، فاضطرت الدولة إلى شرعنة وتنظيم هذه العملية.
وفي خضم تقنين هذه العملية، اضطرت الدولة إلى إعطاء "مواطنيها" حقوقاً معينة في مقابل جباية الضرائب منهم وإجبارهم على دخول الجيش. وبذلك تطورت علاقة عضوية بين الدولة ومواطنيها، بل إن مفهوم المواطن ومبدأ المواطنة (citizenship) يعود تطوره إلى هذه الفترة، حتى ظهرت الصورة المثالية للمواطن الفاعل في أمور الدولة وتبلورت بشكل واضح مع روسو (Rousseau) في الفترة السابقة للثورة الفرنسية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.[8] وهكذا، نمت "حقوق المواطنة" في دول أوروبا في جدلية مركبة مع نمو الدولة ونمو الحروب بالتزامن، والحاجة للبيروقراطيات والضرائب لتمويل هذه الحروب.
بالطبع، لم يكن هذا حال بناء الدول في غالبية ما يعرف بالعالم الثالث، الذي تعرض للاستعمار والحكم الأجنبي، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، من قبل هذه الدول الغربية. بل إن البيروقراطية الحديثة في جل العالم الثالث تبلورت أصلاً في فترة الاستعمار وحقبة التحرر التي تلتها، والتي بدأت في القرن التاسع عشر مع حروب التحرر في أمريكا الجنوبية ومن ثم انتقلت في القرن العشرين إلى باقي المستعمرات. إذن، فإن مؤسسات وأجهزة هذه الدول لم تنتج من نفس التاريخ والأوضاع التي نتجت منها الدول في أوروبا، بل لعب الاستعمار دوراً محورياً فيها.
هذه النقطة مهمة، إذ ينزع الكثير من النقاد إلى عقد المقارنات مع دول أوروبا وأمريكا الشمالية وكأنها المعيار المثالي، بحيث تكفي الإشارة لاختلاف دولة ما عن هذا "المعيار" للحكم بالخلل في بنيتها. وفي هذا التشخيص توصيف خفي للعلاج أيضاً، الذي يتلخص في أن تصبح الدولة مثل قريناتها في أوروبا وأمريكا الشمالية، وهو توصيف يفترض ضمنياً إمكانية وصول هذه الدولة "المتخلفة" إلى نفس النموذج المتبع في العالم "المتقدم". والحق أن ليس لهذه الدول أن تتشابه كلياً و"ترتقي" لمصاف الدول الأوروبية إلا إذا عاشت نفس تاريخها من حروب واستعمار. ولذلك، فالأحرى فهم تاريخ وطبيعة الدولة في كل منطقة على حدة، عوضاً عن الاعتماد الكلي على الإطارات والنماذج المسبقة لدول يختلف تاريخها وتطورها عن طبيعة الدولة قيد الدراسة. بالطبع، هذا لا يعني عدم إمكانية أخذ العبر والأمثلة والمعايير من هذه الدول، خصوصاً وأنها تعتبر من الدول الديمقراطية والصناعية في عصرنا الحالي، إلا أنه يحتم الوعي بأن مسار أي دولة أخرى لن يكون مماثلاً من الناحية التاريخية.
في غالبية دول الخليج، نمت الدولة بشكل مغاير تماماً لنمط نمو الدول في أوروبا، إذ أنها نمت أساساً تحت ظل الاستعمار البريطاني (باستثناء السعودية نسبياً، والتي سنعود إليها بعد قليل). وبذلك، لم تنم الدولة أساساً عن طريق بيروقراطية بنيت للحرب وجني الضرائب لتمويل هذه الحروب، بل أخذ تطورها منحىً مغايراً. ولكي نفهم نمو الدولة الحديثة في الخليج، علينا العودة إلى القرن التاسع عشر ودخول الهيمنة البريطانية إلى مياه الخليج.
أن ترى بعين الإمبراطورية: التبعية الغربية وبذور الحكم المطلق في الخليج
ظهرت في القرن الثامن عشر في الجزيرة العربية ظاهرة أسماها خلدون النقيب بـ "دورة النخب القبلية"،[9] حيث برزت عدة حركات من شبه الجزيرة بشكل ملفت للنظر، واستطاعت الوصول إلى سدة الحكم في مناطق متعددة، بل الكثير منها ما زال يحكم حتى هذا اليوم. فقد أضحى القواسم في رأس الخيمة كقوة بحرية لها اعتبارها منذ عام 1777، وسبقها بروز مسقط كقوة تجارية إقليمية منذ عام 1719، الذي تبعه انقسام الحكم بين الإمامة في الداخل والسلطنة في الساحل في عام 1792. وثبت حكم آل الصباح رسمياً في الكويت حوالي عام 1752، وبرزت كمحطة تجارية بديلة للبصرة في نهاية القرن الثامن عشر. بينما نمت البحرين كمركز تجاري بعد سيطرة آل خليفة عليها عام 1783، وبرزت الحركة الوهابية والدولة السعودية الأولى في عام 1744.[10] وتأسست أغلب هذه الإمارات ومراكز حكمها على تخوم الإمبراطوريات الكبرى المهيمنة على المنطقة في تلك الفترة، وبالذات العثمانية والقاجارية. وكانت هاتان الإمبراطوريتان تمران بمراحل مضطربة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ما سمح ببروز هذه القوى، والتي واصلت النمو بفضل تواجدها خارج إطار النفوذ المباشر لهاتين الإمبراطوريتين، بحيث اعتمدت على الضرائب المنخفضة مقارنة بهذه الإمبراطوريات، وسياسة المدن التجارية المفتوحة (entrepot state)، التي شجعت بدورها تنقل الناس إليها والاستقرار وبناء الحواضر الجديدة فيها.
جدول: العائلات الحاكمة في دول الخليج العربية
الدولة | العائلة الحاكمة | بداية فترة حكم العائلة | أول اتفاقية وقعت مع الإمبراطورية البريطانية |
الإمارات – أبوظبي | آل نهيان | 1761 | 1820 |
الإمارات – دبي | آل مكتوم | 1833 | 1853 |
الإمارات - الشارقة ورأس الخيمة | آل قاسمي | 1727 | 1820 |
البحرين | آل خليفة | 1783 | 1820 |
السعودية | آل سعود | 1744 (الدولة السعودية الأولى) |
1915 |
قطر | آل ثاني | 1847 | 1916 |
عمان | آل بو سعيد | 1744 | 1798 |
الكويت | آل صباح | 1752 | 1899 |
واتسمت هذه المرحلة بالاضطراب، يتغير فيها الحكم ويعاد رسم النفوذ باستمرار، بحيث بات عسيراً على الحكام ضمان استمرار سلطتهم لأكثر من بضع سنين، إما بسبب الاعتراك الداخلي أو بسبب المعارك مع القوى الإقليمية الأخرى.[11] ومن المهم تبيان أن طبيعة هذا الحكم لم تكن مماثلة لمفهوم الحكم أو الدولة الحديث، حيث تتواجد قوة مركزية وجهاز بيروقراطي ضخم يدير هذه الدولة بناء على أصول الترشيد الحديث من وزارات وجهاز خدمة مدنية وميزانية محدثة إلخ. بل كان الحكم أكثر تناثراُ وتفرقاً، وتركز أساساً في المدينة التي كان يعيش فيها الحاكم (كالكويت)، فيما كان نفوذ الحاكم يقل في المناطق الأبعد من مركز كرسي الحكم، وإن ظلت هذه المناطق تعتبر تحت نفوذه ولو بالاسم، فقد كان يكفي أن تدين الناس أو القبائل للحاكم بالولاء الاسمي وعبر دفع الضرائب. وعموماً لم تتواجد دول ذات بيروقراطية مركزية وقوية في أي من مناطق ما يعرف بدول مجلس التعاون اليوم.[12]
مع دخول القرن التاسع عشر، بدأ نفوذ إمبراطورية أخرى بالتوسع في الخليج، وهي التي سنركز معظم حديثنا عليها، نعني الإمبراطورية البريطانية. وقد رسخت بريطانيا نفوذها خلال هذه الفترة عبر توقيع اتفاقيات "سلام" مع القوى الحاكمة الممتدة على ساحل الخليج العربي آنذاك. فبعد أن دمر البريطانيون أسطول القواسم في رأس الخيمة عام 1819 بدواعي محاربة القرصنة، فرض الإنجليز على عدد من حكام المنطقة توقيع "اتفاقية السلام" لسنة 1820، التي أعطت الحماية والحرية لأية سفن بريطانية تعبر المنطقة. وتوالت الاتفاقيات مع مختلف قوى الخليج على مر القرن التاسع عشر، حتى توجت باتفاقية عام 1853 "للسلام البحري الدائم" (Perpetual maritime Truce)، التي أسست للـ "سلام" فيما بين الأطراف والحكام المتفرقين في الخليج، تحت طائلة العقوبة البريطانية لأي مخالفين.
وهكذا، بسط البريطانيون سيطرتهم على مياه الخليج، كما فعلوا مع غالبية بحار العالم آنذلك، حتى أصبح القرن التاسع عشر يعرف بـ"السلم البريطاني" (Pax Britannica)، اعترافاً بكونها أهم قوة عظمى في العالم. وكان هم البريطانيين خلال هذا القرن هو السيطرة على مياه الخليج لتأمين طرق التجارة من وإلى الهند، لا أمور الحكم الداخلية في منطقة الخليج، التي كانت تعتبر منطقة طرف (periphery) للإمبراطورية البريطانية. واكتفت بريطانيا بفرض المعاهدات التي تضمن "السلام" وعدم الاقتتال في بحار الخليج دون التدخل بشكل كبير في أمور الحكم الداخلية.[13]
لكن هذه النظرة بدأت في التغير مع نهاية القرن التاسع عشر، في تلك الفترة التي سماها المؤرخ هوبزباوم (Hobsbawm) بعصر الإمبراطوريات (Age of Empire).[14] فقد بدأ الاستعمار الأوروبي بالتوسع بشكل كبير، خصوصاً في المنطقة التي عرفت باسم "الشرق الأوسط" وإفريقيا. وقد انعكس هذا التوسع في الخليج، إذ بدأت بريطانيا بالتدخل في شؤون الحكم الداخلية في منطقة الخليج بوتيرة متسارعة. بدأت هذه التدخلات مع ما عرف بـ"السياسة الأمامية" (forward policy) للّورد كورزون حاكم الهند البريطانية (Lord Curzon – Viceroy of India )، التي وضعها في السنوات الثلاث الأخيرة من القرن التاسع عشر. وقد طور كورزون هذه السياسة استباقاً للمراوغات المتصاعدة بين الإمبراطوريات الكبرى في ذلك الوقت، إذ رأى بأن نفوذ وأطماع فرنسا وروسيا وألمانيا بدأت تتمدد وتتزايد في منطقة الخليج، ولذلك وجب أن يكون هناك تواجد فعلي على الأرض لضباط بريطانيين "بيض" على الساحل الغربي للخليج. ولم يكن لبريطانيا حضور مباشر في الساحل الغربي من الخليج حتى هذه الفترة سوى عبر المقيم الذي كان يعيش في بوشهر والوكلاء المحليون في كل مدينة. وكانت البحرين هي المكان الذي وقع عليه الاختيار لتفعيل "السياسة الأمامية" في الخليج، حيث كانت البحرين أكبر مركز لتجارة اللؤلؤ في الخليج في تلك الحقبة. وهكذا قدر لهذه الجزيرة الصغيرة أن تصبح بمثابة عين العاصفة للتدخل البريطاني المباشر في أمور الحكم الداخلي في الخليج.
فمع حلول عام 1900، أرسل البريطانيون إلى البحرين أول ضابط بريطاني رسمي برتبة مساعد وكيل سياسي (Assistant Political Agent) ليقيم بشكل دائم في الضفة الغربية من الخليج، وكان يتبع المقيم السياسي (Political Resident) في بوشهر، والإثنان بدورهما كانا تحت حكومة الراج البريطانية في الهند. وسرعان ما تبع مساعد الوكيل السياسي وكيل سياسي (Political Agent) في 1904، وقد أرسل إلى المنامة، كما أرسل آخر إلى الكويت. وفي نفس السنة، دمر الإنجليز بيت وأسطول أمير المنامة المحلي ونفوه، وأسسوا مكانه "دار الحكومة" في المنامة. وكان ذلك بمثابة إعلان للملأ بأن هناك قوة سيادية جديدة في البلاد، أعلى من أي قوة أخرى، بما فيها "بيت الدولة" في المحرق، الذي كان معقل حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي. وكانت هذه بداية تدخلهم بشكل مباشر في تفاصيل وحيثيات الحكم المحلي في البحرين والخليج عموماً.[15]
ومن المهم التذكر أن هذه الفترة، الممتدة من بداية القرن العشرين وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت مرحلة مفصلية ومتقلبة في تاريخ العالم العربي أجمع، بما فيه الخليج. فكانت هذه الفترة هي مرحلة أفول الإمبراطوريات العريقة التي حكمت وسيطرت على المنطقة لعدة قرون. إذ كانت الدولة العثمانية، التي حكمت عدة مناطق في شبه الجزيرة العربية، بما فيها المنطقة الشرقية والحجاز، تترنح إلى أن سقطت بعد الحرب العالمية الأولى. وكان مصير الدولة القاجارية في إيران مماثلاً، إذ ضعفت سلطتها منذ ثورة التنباك في نهاية القرن التاسع عشر حتى أفولها في عام 1925. بالإضافة إلى ذلك، مثلت هذه الفترة مرحلة حاسمة في رسم الحدود السيادية الأولى في المنطقة، ابتداء من اتفاقية سايكس بيكو إلى اتفاقية العقير، التي نتج عنها الانتداب البريطاني للعراق وفلسطين ومصر وغيرها من المناطق العربية. إذن، كانت هذه المرحلة محورية ومضطربة، سقطت فيها الإمبراطوريات السابقة، وتوسع فيها الاستعمار الغربي، وتولى مفاصل السلطة فيها حكام جدد، ورسمت حدود الدول لأول مرة.
فنون الحكم وبذور الحكم المطلق المحدث في الخليج: المستشارون كأداة لتحديث الدولة تاريخياً
وحتى نفهم التطورات في هذه الفترة، فمن الضروري أن نتبحر قليلاً في طبيعة النظام الاستعماري الاوروبي في هذه الفترة، أي في الربع الأول من القرن العشرين. وقد كان الفكر السائد في بريطانيا في ذلك الوقت بأنه على هذا الاستعمار أن يأخذ شكل "الحكم غير المباشر" (indirect rule).[16] وتقتضي الفلسفة الأساسية من وراء هذا النوع من الحكم أن لكل منطقة وسكانها خصوصياتها وطبائعها وثقافتها الخاصة، وأن على البريطانيين مأسسة هذه الخصوصيات بأكبر قدر ممكن وتقنينها رسمياً، ومن المفضل أن يتم ذلك تحت أعين الحكام المحليين، الذين بدورهم كانوا تحت وصاية الإنجليز. وطبق هذا المبدأ في مناطق مختلفة من الإمبراطورية، من الهند وصولاً إلى جنوب إفريقيا، وكانت هذه العقلية التي رسا بها الإنجليز على سواحل الخليج.
وقد تفاوتت حدة الاستعمار والنفوذ البريطاني بين دول الخليج، فكانت على أشدها في البحرين وأضعفها نسبياً في الكويت. وتمثل الاستثناء الأبرز في المملكة العربية السعودية، التي كانت في خضم تكوين الدولة السعودية الثالثة في أول عقدين من القرن العشرين، والتي لم يطلها الاستعمار البريطاني مباشرة، إلا أنه كما سنبين كان له نفوذ محوري فيها أيضاً.[17] لكن من الملاحظ أن الاستعمار البريطاني قد ثبّت حكم العوائل المختلفة في الخليج وشبه الجزيرة العربية التي حصلت على دعم البريطانيين. فكل العوائل التي حصلت على دعم "الدولة البهية" (كما كانت تسمى بريطانيا) قد بقيت في منصبها حتى يومنا هذا، فيما عدى إمارة المحمرة تحت حكم الشيخ خزعل، التي استولت عليها حكومة الشاه الجديدة في إيران، وأصبحت جزءاً من منطقة الأحواز اليوم. هذا بالإضافة إلى حكم شريف مكة في الحجاز، الذي كان مدعوماً من قبل البريطانيين قبل سقوطه وضمه إلى الحكم السعودي المساند أيضاً من قبل بريطانيا. أما الحكام الذين لم يحصلوا على دعم الإنجليز، كإمارة الرشيد في حائل، فقد سقطوا وانتهى حكمهم. وبهذا، تمكنت الإمارات الصغيرة، التي عادة ما يتم ابتلاعها من قبل قوى ودول أكبر، من الاستمرار على امتداد الساحل الغربي للخليج، بعد حصولها على الحماية البريطانية التي ثبتت حكم العائلات المالكة في كل منها.
إذا، كان للاستعمار البريطاني دور حاسم في تكوين دول الخليج، وتفاوت هذا الدور بين المناطق المختلفة، حيث بلغ تدخلهم أوجه في البحرين. وسنحول أنظارنا إلى هذه الجزيرة الصغيرة في هذا الجزء، لكونها أول شاهد على مخاض الدولة الحديثة في الخليج. فبحلول العقد الثاني من القرن العشرين، كان البريطانيون قد بسطوا سيطرتهم الكاملة على الحكم المحلي في البحرين. فعلى مدى الفترة من 1904 إلى 1923، واصل البريطانيون تمديد توسعهم في البحرين، إلى أن قاموا بعزل الحاكم في 1923، وتنصيب ابنه كحاكم جديد، فيما كان الضباط الإنجليز هم الممسكين بزمام الدولة من خلفه.
وقد بنى البريطانيون نظام حكمهم في البحرين بناء على ما كان يطبقونه في الإمارات الهندية المحلية (Native Princely States)، بحيث يتم حصر السلطة والقوة السياسية المحلية في هيئة الحاكم، ويسانده في الخلفية ثلة من المستشارين والخبراء البريطانيين. والتبحر في أصول هذا النظام مهم، إذ هو الذي وضع البذور الأساسية لطبيعة الحكم المطلق في الخليج الذي يستمر إلى يومنا هذا. ففي سبيل تثبيت إدارة الدولة، أرسل البريطانيون "مستشاراً" إنجليزياً يدعى شارلز بلجريف ليساعد الحاكم في تدبير أمور الحكم، وقد أصبح بلجريف أسطورة في تاريخ البحرين الحديث. بل إن هذا "المستشار" أصبح متخذ القرار الفعلي في البلاد لأكثر من ثلاثين سنة حتى مغادرته في عام 1957 وسط معارضة عارمة على حكمه. وقد كانت الإدارة العامة التي أسست على يده والمسؤولين البريطانيين الآخرين هي بداية الحكم المطلق المحدث الذي مأسس له الاستعمار، حيث بدأ المسؤولون البريطانيون بقيادة المستشار بتطبيق سلسلة من " الإصلاحات "، هدفها الأساسي إنشاء بيروقراطية الدولة الحديثة في البحرين. فلمدة ثلاثين عاماً، تصرف بلجريف كرئيس وزراء البلاد، وأدار كل أمور الدولة فعلياً، من الشؤون المالية إلى نظام الشرطة مروراً بالصحة والتعليم.
جسّد بلجريف المثال الحي لذلك النمط من المستشار الاستعماري البريطاني الذي ظهر في أوائل القرن العشرين في ظلّ نظام "الحكم الاستعماري غير المباشر" ، الذي تميز بمزيج من الخلفية العسكرية وبكونه "استشراقي" مخضرم يتقن اللغة العربية بعد أن عاش في المنطقة لفترة من الزمن. وقد درس بلجريف في جامعة أكسفورد معقل تخريج كوادر الإدارة الاستعمارية، وكانت لديه خبرة سابقة في الجيش البريطاني والمستعمرات البريطانية، بما فيها السودان التي قضى فيها فترة. ثم درس اللغة العربية في جامعة لندن كلية الدراسات الشرقية والافريقية (SOAS)، وبعدها عيِّن في البحرين. وكان لـ "بلجريف" المستشار أن يصبح القدوة للبريطانيين لإدارة باقي منطقة الخليج في فترة الإستعمار.
ومن المهم التوضيح أن نظام الحكم المطلق المحدث لا يعتبر فريداً فقط على مستوى العالم في القرن العشرين، بل أيضاً بالمقارنة مع أنظمة الحكم التي كانت سائدة في منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية في الفترة التي سبقت تحديثه وبنائه لأول مرة في بدايات القرن العشرين تحت الإشراف البريطاني. فعلى الرغم من تواجد حاكم معين من عائلة معينة في الفترة التي سبقت هذا النظام، إلا أن السلطات لم تجتمع في يده بشكل شبه مطلق، بحيث يحتكر هو والمقربون من عائلته السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في البلاد، بل وحتى الموارد الاقتصادية في الدولة. فتاريخياً، شهدت المنطقة توزيعاً في مكامن القوى السياسية والاقتصادية. ففي البحرين كمثال، كان مجلس العرف المكون أساساً من التجار هو الفصل في القضايا والخلافات التجارية، ونفس الأمر ينطبق مع مجلس السالفة الذي تولى أمور اللؤلؤ.[18] أما القضايا الدينية والجنائية، فكان للقضاة استقلال كبير أيضاً في إدارتها.[19] وحتى فيما بين شيوخ العائلة الحاكمة، كان هناك توزيع في القوى، إذ كان لكل من "الكبارية" قوته القسرية الخاصة (الفداوية)، وكان لكل منهم مناطق معينة تحت سيطرتهم التامة (كما كان الحال مع الكثير من القرى الزراعية في البحرين التي مورس عليها الحكم الاقطاعي). وحتى بعض القبائل كان لها استقلالية في إدارة أمورهم والمناطق التي تواجدوا فيها (كما هو حال الدواسر في البديع). أما من ناحية الموارد الاقتصادية، فقد اعتمد الحاكم على الضرائب المتحصلة من التجارة في المناطق الواقعة تحت نفوذه، وهو ما أعطى التجار نفوذاً اقتصادياً قوياً في البلاد.
ويعتبر تمركز السلطة في يد الحاكم في المنامة من أهم التغيرات التي طرأت على نمط الحكم، بعد أن كانت السلطة مبعثرة على عدة شيوخ ومناطق. وتزامن ذلك مع إنشاء قوة شرطة احتكرت حق استعمال القسر وإلغاء القوى القسرية الخاصة بكل شيخ على حدة (الفداوية). كما أنشأت المحاكم الرسمية في هذه الفترة، ووضع القانون الجنائي والمدني لحكم البلاد. ووضعت أول ميزانية رسمية عامة في منطقة الخليج عام 1924، وكانت الميزانية تدقق بشكل مستقل من قبل محاسبين قانونيين في بغداد. وأنشأت عدة دوائر لإدارة أمور البلاد، بما فيها دائرة المالية ودائرة الجمارك ودائرة التعليم ودائرة الصحة، واستقدم الخبراء والتكنوقراط من الهند وبريطانيا لإدارتها. وقد تكون دائرة "الطابو" (tapu) من أهم تلك الدوائر، وهي المعنية بتوثيق الأراضي ومالكيها في البلاد، وكانت أول دائرة من نوعها في الخليج. كما أدخلت إصلاحات مركزية على مهنة الغوص، كإلغاء توارث الدين بين الغواصين، بالإضافة إلى إلغاء ضريبة "الرقابية" (من الرقبة، أي ضريبة على كل رأس)، وتحسين أوضاع الفلاحين القانوني في القرى، وقد كانوا يعيشون حياة أقرب ما تكون إلى النظام الاقطاعي.[20]
كما ابتكرتْ المراسيم والتقاليد الرسمية المرتبطة بالدولة، كعدد الطلقات النارية المعتمدة عند الاستقبال الرسمي للشخصيات، والألقاب المختلفة التي تطلق على كل مقام (كمثال حضرة صاحب العظمة)، والتي جعلت الحاكم في أعلاها. وكما كان الحال مع حكومات أوروبا في القرن السابق، كانت هذه المراسيم الحديثة تقدم نفسها وكأنها مستمرة وجزء من التاريخ والتراث القديم الممتد إلى الحاضر، وذلك بهدف بناء الهوية والسردية الحديثة للدولة وإعطائها عمقاً تاريخياً، وقد أصبح الحاكم وعائلته على رأسها.[21]
لم يحدث هذا كله من باب الإحسان فقط، فقد راهن البريطانيون على أن إدخال الإصلاحات والحداثة في بناء الدولة سيساهم في بسط سيطرتهم على الأمور الداخلية في الخليج، والتي بنظرهم كانت معرضة للانفلات إذا لم تطبق هذه التحديثات. وقد يكون كتاب البحرين السنوي (Bahrain Annual Report)، الذي صدر لأول مرة عام 1926، خير شاهد على فنون الحكم الحديثة التي طبقها الإنجليز في البحرين. فهذا التقرير السنوي الذي كان يكتبه بلجريف، يأخذ منظور الطائر المحلق من الأعالي ليراقب البلاد من تحته (bird's eye view)، بطريقة تسمح له باستقراء الدولة والمجتمع بنظرة شمولية فوقية، و توثيق تفاصيلهما بهدف إدارتهما بإحكام. فضم التقرير السنوي الميزانية المدققة والمفصلة بحسب الدوائر الحكومية، وإحصائيات متعددة عمن تلقى العلاج في المستشفى وأمراضهم، وعدد الطلبة في كل مستوى دراسي، وعدد موظفي الدولة، وعدد القضايا في المحاكم، وغيرها من أمور إدارة الدولة الحديثة التي ظهرت لأول مرة في الخليج في البحرين.
وبذلك، تركزت غالبية منابع القوى السياسية في البلاد من القضائية والتنفيذية والتشريعية رسمياً في الحاكم، الذي أصبح هو صاحب السيادة (the sovereign) الأعلى الذي تترسخ في شخصه كل هذه الصلاحيات، فيما كان المستشار بلجريف هو من يدير الأمور فعلياً على أرض الواقع نيابة عنه. وهذا النوع من الحكم المطلق المحدث الذي تم تطبيقه في البحرين، كان هو النموذج المعياري لباقي الخليج. حيث برّر البريطانيون هيمنتهم على الدولة عبر المكاسب الاقتصادية والمادية التي أنتجها النظام المطلق البيروقراطي الجديد. وسرعان ما أصبحت البحرين وبلجريف قدوة للمنطقة يحتذى بها من وجهة نظر الإنجليز. ومن ركائز هذا النموذج الجديد كان "المستشار" على نمط بلجريف، وقد حاول البريطانيون تطبيقه في باقي المنطقة كوسيلة لتحديث الحكم تحت سيطرتهم.
النفط يتفاعل مع أجهزة الحكم المطلق المحدث
وسرعان ما امتزج عامل أساسي آخر مع بيروقراطية الدولة الحديثة ليولد تحولاً مفصلياً في إدارة دول الخليج، وبالطبع فإننا نقصد هنا اكتشاف النفط وتصديره وتدفق إيراداته على الدولة. وكان لهذين العاملين، أي بناء البيروقراطية الحديثة وإيرادات النفط المتدفقة على الخليج، دور محوري في بناء الدولة عبر جدلية ثنائية بينهما، بحيث كان كل منهما يغذي الآخر.
ومرة أخرى، ونظراً لكونها الموقع الأول لاكتشاف النفط في عام 1932، لعبت البحرين دور المختبر لبلورة عملية توزيع العائدات النفطية، والتي شكلت سابقة طبقت فيما بعد في بقية دول الخليج. ونص الاتفاق الرسمي المبرم بين المستشار وبقية المشرفين على الاستعمار البريطاني، وشركات النفط، والحاكم المحلي، على توجيه ثلث العائدات نحو "محفظة الحاكم" (privy purse) كحصة شخصية له من عائدات النفط، يحق له التصرف بها حسب إرادته. أما الثلث الثاني فخصص لتمويل الإنفاق السنوي للموازنة العامة للدولة، وخصص الثلث الأخير للاستثمارات الخارجية طويلة المدى، كنوع من الاحتياطي والاستثمار للأجيال القادمة. وكان هذا التوزيع للحصص "الثلث بالثلث بالثلث" مسجلاً وموثقاً رسمياً في الميزانيات السنوية والحسابات الختامية للدولة. وهكذا أسس لمبدأ تلقي العائلة الحاكمة سنوياً لحصة خاصة من النفط تعادل قيمة النفقات السنوية للدولة كاملة لذلك العام. وبرأينا فإن هذه هي "الخطيئة الأولى" التي أسست للنمط الذي نظرت وتعاطت عبره الدولة ومن ثم المجتمع مع إيرادات النفط وأوجه استعمالها، بحيث نظرت الدولة والمجتمع إلى هذه الإيرادات على أنها كعكة تقطَّع وتوزَع على جهات خاصة في المجتمع، لكل منها نصيب محدد حسب مكانته الاجتماعية وقربه من مركز اتخاذ القرار، بناء على مبدأ "أريد نصيبي من الكعكة". وهذا ما سنحاول تبيانه في هذا القسم.
لنبدأ سعينا بما كتبه المستشار بلجريف سنة 1950 فيما يتعلق بمخصصات الميزانية لـ "محفظة الحاكم" في البحرين:[22]
"هذا النوع من الإنفاق هو من وجهة نظرنا الغربية قابل للنقد ... إلا أنه يجب ألا تغيضنا كثيراً الزيادة في مصروفات "محفظة الحاكم"، إذ قد يكون من الحكمة أن يكون كريماً تجاه أقربائه في ظل العلاقات الأبوية والبدائية السائدة في مشيخات الخليج. فأعضاء العائلة الحاكمة المتذمرين والساخطين هم دائماً مصدر رئيسي محتمل للمشاكل السياسية." [23]
وقد عبر المقيم السياسي البريطاني في الخليج في ذلك الوقت السير روبرت هاي (Rupert Hey) عن شعور مماثل:
"على الرغم من أن الحاكم قد يكون لديه بعض المشاكل الصغيرة مع شعبه، فإن أقاربه غالباً ما يكونون الشوكة الكبرى في جسده. قد يناصره عدد قليل منهم، لكن يمكننا تقسيم البقية إلى قسمين: أولئك اللذين يريدون المال والسلطة، وأولئك اللذين يريدون المال فقط ... والفئة الأخيرة هي الفئة الأكبر عدداً بكثير. هناك العديد من الشيوخ الذين يرفضون القيام بأي عمل، وبعضهم يعيشون حياة مترفة. وهؤلاء ينادون بشكل مستمر بزيادة بدلاتهم، حيث يجعلون حياة الحاكم عبئاً عليه باستمرار، حيث يجد هو صعوبة في مقاومة متطلباتهم ...". [24]
وسرعان ما تبع المخصصات حصول أعضاء العائلة الحاكمة على مزايا وإعفاءات أخرى من قبل الدولة، خصوصاً من ناحية الكهرباء والماء والجمارك، التي لم يتحملوا شخصياً تكلفة أي منها، وقد دون بلجريف بشكل منهجي في تقرير البحرين السنوي كل الإعفاءات الجمركية وفي الكهرباء والمياه التي كان يحصل عليها أعضاء العائلة الحاكمة.[25] وكما سنرى، أسس هذا لنموذج لباقي الشعب للنظر إلى إيرادات النفط وأوجه إنفاقها بطريقة مماثلة، أي أن لكل شخص نصيب شخصي فيها، على غرار العوائل الحاكمة. وبهذا تمأسست النظرة إلى إيرادات النفط على أنها "كعكة أريد نصيبي منها"، يتم تقسيمها على جهات خاصة من شيوخ ومواطنين، كل حسب قربه من مركز القرار، بدلاً من النظر إليها أساساً كثروة عامة يجب المحافظة عليها بل وجعلها تتكاثر.
هذا يأخذنا إلى قناة أخرى مكنت العائلة الحاكمة من تركيز الحكم المطلق في يدها. فبالإضافة إلى التحكم في إيرادات النفط وأوجه إنفاقها، والحصول على دعم المؤسسات الغربية التي طبقت مبدأ بناء بيروقراطية الدولة، فقد دأب أعضاء العائلة الحاكمة، خصوصاً النشطين منهم وذوي الطموح والمقربين من الحاكم، بتثبيت قوتهم عبر تحكمهم في دوائر ووزارات الدولة المختلفة التي تم بناؤها حديثاً، حيث قاموا بإدارتها إلى جانب الخبراء الغربيين فيها، وأصبحوا يتحكمون في أوجه إنفاقها وأيضاً في الخدمات المقدمة منها.[26] وهكذا، فقد كان أخ الحاكم هو رئيس بلدية المنامة، والمسؤول الأول عن التعليم، كما دخل أعضاء العائلة الحاكمة في مناصب قضاة في المحاكم، ومن بعدها في باقي دوائر الدولة. إذن، فإن السيطرة على إيرادات النفط لم تكن الطريقة الوحيدة التي ثبتت سلطة العائلة الحاكمة، إذ بقي السؤال الأهم هو كيف استعملت إيرادات النفط هذه في سبل أخرى لتثبيت القوة والسلطة. وقد تمثلت أحد فنون الحكم المعتمدة في دفع أعضاء العائلة الحاكمة، بالإضافة إلى المستشارين الغربيين، إلى التمركز في دوائر الدولة وأجهزتها البيروقراطية المبنية حديثاً، لكون هذه الأجهزة تعبر عن المؤسسات التي رسخت فيها قوة وسيادة الدولة، رسمياً وقانونياً. ولذلك تمركزت سلطة وسيادة الدولة بشكل كبير في العائلة الحاكمة والمستشارين.
وهذا التحكم في دوائر ومؤسسات الدولة الرئيسية لم يكن غرضه بسط سلطة العائلة الحاكمة على بقية السكان فحسب، بل كان أيضاً وسيلة لتقنين وحل الخلافات بين أعضاء العائلة نفسها عبر توزيع السلطة السياسية وتنظيم المنافسة بين هذه المؤسسات، بدلاً من اللجوء إلى وسائل أخرى كالعنف لفض الخلافات، والتي كانت تستعمل بكثرة في ماض ليس ببعيد. إذن، فحتى يتم ضمان استمرارية وإعادة إنتاج "الدولة" ونظام الحكم الذي ثبتت عليه، فقد كانت الطريقة تتركز على تثبيت افراد من العائلات الحاكمة في أسس مفاصل الدولة، وخصوصاً في مفاصل المؤسسات المتعلقة بالقسر والمال والتي سميت "بالسيادية"، أي الشرطة (ومن بعدها الجيش) والمحاكم، بالإضافة إلى وزارة المالية (ومن ثم انضمت وزارة الخارجية بعد الاستقلال). وتم تمويل بناء هذه البيروقراطية عبر إيرادات النفط، التي كما رأينا استخدم الجزء الأكبر منها كإيرادات خاصة للحاكم وإلى تمويل الإدارة العامة والأجهزة القسرية.
وبالإضافة إلى زيادة نفوذ أفراد العائلة الحاكمة عبر نصيبهم من ريع النفط، فقد أعطت إيرادات النفط استقلالية اقتصادية لأجهزة الدولة من بقية المجتمع، فلم تعد الدولة تعتمد أساساً على الضرائب المفروضة على التجارة لإيراداتها، وبذلك فإنها لم تعد تعتمد على أنشطة التجار للحصول على المال. ومنذ بداية بناء الدولة الحديثة في البحرين، فقد كان الجانب الأمني يأخذ نصيب الأسد من مصروفات الدولة، خصوصاً في ظل الأحداث الجسيمة التي بيناها في فترة عزل الإنجليز للحاكم السابق والمعارضة التي برزت ضدها في 1923، بحيث لم تتواجد قاعدة شعبية كبيرة للحاكم الجديد حتى بين أهله، الذين ناهضوا عزل الحاكم السابق. وهكذا انتشرت الاضطرابات وأحداث "الشغب" مع ولادة الدولة الحديثة في البحرين. ولذلك ركز المستشار الإنجليزي على بناء جهاز أمني مدرب ومحترف، وخصصت نسبة كبيرة من ميزانية الدولة السنوية عليه.
وحتى تكتمل القصة، فمن المهم التنويه بأن جزءاً من إنفاقات الدولة قد وجهت أيضاً لبناء المدارس والمستشفيات والخدمات الاجتماعية الأخرى، حيث أصبحت البحرين مكان انتشار التعليم والصحة من قبل الدولة بشكل نظامي وموسع لأول مرة في الخليج. وبالإضافة إلى الخبراء الأجانب، فقد نمى على مدى القرن العشرين كادر محلي مكون من تكنوقراط وخبراء محليون ساهموا في بناء الجهاز البيروقراطي والمحلي وإدارته في البحرين وبقية دول الخليج. ولم يجري هذا اعتباطاً، بل جاء كردة فعل على الحراك السياسي والاجتماعي الداخلي والإقليمي، الذي أدى إلى زيادة المصروفات على هذه الخدمات الاجتماعية لمحاولة مواجهة وتقنين الحراك المحلي والإقليمي المعارض.[27]
أما الثلث الأخير من إيرادات النفط، فخصص كما ذكرنا سابقاً لاستثمارات خارجية، وكانت البحرين أول دولة في الخليج تقوم بذلك، مؤسسة بذلك لمبدأ استعمال جزء من النفط لاستثمارات رأسمالية عامة. وهكذا، مع حلول منتصف الثلاثينات، اتضحت في البحرين التركيبة الأساسية لأوجه إنفاق إيرادات النفط في الخليج التي فصلناها في القسم السابق، كما تمأسست أهم ملامح الحكم المطلق المحدث نفطياً. وتتلخص أهم ملامح هذا الحكم ونمط إعادة إنتاج الدولة المبني حوله في التالي: تمركز القوة السياسية في يد الحاكم، وسيطرة عائلته على أهم مفاصل الدولة ومؤسساتها، وخصوصاً القسرية منها. وكان لهم أن يسيطروا على إيرادات النفط وطريقة توزيعها، ما وفر المال اللازم لضمان استمرارية هذا النمط من الحكم وإعطائه استقلالية اقتصادية من بقية المجتمع، حيث ذهب جزء كبير من الإيرادات إلى أفراد العائلات الحاكمة. أما الباقي فقسم بين الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة والاستثمارات الخارجية. وأشرف عليهم وساندهم في ذلك ثلة من المستشارين الغربيين، الذين وضعوا أسس البيروقراطية الحديثة لهذه الدولة، والتي سرعان ما انضم إليها وأدارها كادر تكنوقراط وطني. كانت هذه إذن لبنات الحكم المطلق المحدث نفطياً في إمارات الخليج تحت حكم الاستعمار البريطاني، وحتى تلك التي لم تكن تحت سيطرته، إذ كانت كل منها تراقب وتتعلم وتتفاعل مع الأخرى.
الكويت وأول طفرة نفطية كبرى
انتقلت أعين المسؤولين البريطانيين في الخليج بعد البحرين إلى الكويت، حيث اكتشفت في عام 1938 احتياطيات نفطية ضخمة تعدت تلك في البحرين عشرات المرات، وبدأ تصديرها عام 1946. وعلى الرغم من عدم تدخل الإنجليز بشكل عام في الشؤون الداخلية للحكم في الكويت في الفترة التي سبقت اكتشاف النفط، إلا أن اكتشافه غير تلك الموازين، بحيث عمل الإنجليز على إيجاد موطئ قدم في العملية السياسية الداخلية. وكما هو الحال في البحرين، فقد أرسل البريطانيون "مستشارين" لمساعدة حاكم الكويت الجديد الشيخ عبد الله السالم الذي تولى الحكم عام 1950، على أمل ضمان تثبيت نفوذهم في عملية بناء الدولة الحديثة في الكويت. فقد أُرسِل اللواء ويليام هاستد (William Hasted) لإدارة دائرة التنمية التي تم إنشاؤها في بداية الخمسينات، والتي كانت تشرف على مشاريع التنمية في الكويت، في حين وجِّه كركتون (G. C. L. Chricton) ليدير دائرة المالية، التي أصبحت من أهم الدوائر بعد تدفق إيرادات النفط. وعلى غرار الحال في البحرين، أنشأت الدوائر الحكومية المتعددة، وترأس العديد منها أشخاص من العائلة الحاكمة، في سبيل بسط سيطرتهم وأيضاً لتقنين المنافسة فيما بينهم. وكانت المنافسة فيما بين أعضاء العائلة الحاكمة تلعب دوراً مهماً في إبراز أصحاب الكفاءة والطموح اللازم لاستلام زمام الحكم والقيادة، إذ تبوّأ جميع حكام الكويت التالين، بما فيهم الشيخ صباح السالم، وجابر الأحمد، وسعد العبدالله، مناصب قيادية في دوائر الحكومة سابقاً.[28]
إلا أنه من المهم أيضاً أن نبين أنه كانت هناك فروقات مهمة بين البحرين والكويت، على رغم التشابه العام فيما بينهما. فالإنجليز لم يستطيعوا بسط السيطرة الكاملة على الحاكم في الكويت كما الحال في البحرين. بل إن الحاكم الشيخ عبد الله السالم كان أكثر استقلالية ولعدة أسباب، منها طبيعة شخصه، والضغوطات الخارجية المتمثلة في مطالبات حكومة العراق بالكويت، وتفادي البريطانيين لاستعمال القوة في تلك الفترة، بالإضافة إلى طبيعة الحراك السياسي داخل الكويت. فرفض الأمير تعيين مستشاراً بريطانياً أعلى كما كان الحال مع بلجريف في البحرين، وتوجه في المقابل إلى ملء البيروقراطية المحلية بمزيج من أعضاء العائلة الحاكمة والشخصيات المحلية البارزة، والتكنوقراط من الدول العربية المجاورة، وخاصة فلسطين وسوريا. وهذا أعطاه المقدرة على المناورة والتوازن النسبي بشكل أكبر مع البريطانيين، بل أن المستشارين البريطانيين سرعان ما استقالوا أو كانوا على الهامش.
وعموماً مع بداية الخمسينات، التي مثلت عصر التحرر والاستقلال لكثير من دول العالم، خفت بريق "خبراء" الاستعمار البريطاني على طريقة بلجريف، واتجه الهاجس في فترة ما بعد الاستعمار في العالم إلى هموم "التنمية "، حيث أصبحت التنمية هاجساً جديداً بين الدول الغربية والمؤسسات المتحالفة معها، بحيث تركز اهتمامهم على تحسين الأوضاع المادية "للدول النامية" المستقلة حديثاً. وتحوّل عندها الطلب إلى خبراء التنمية، لا سيما أولئك القادمين من الدول الغربية.[29]
وفي حال دول الخليج، مكنت الإيرادات النفطية الهائلة هذه الدول من الحصول على آخر تطورات ومنتجات "التنمية" في ذلك الوقت، التي كانت الدول النامية الأخرى تشقى للحصول عليها نظراً لشح الموارد، من محطات تحلية المياه أو توليد الكهرباء أو التخطيط المدني أو الموانئ والقواعد العسكرية. احتاجت مثل هذه الموارد إلى "خبراء" لإدارتها، ولكن لنتذكر أن هذه منطقة لم يكن فيها مدرسة ثانوية قبل ظهور النفط، فكان عليها استيراد هؤلاء الخبراء، وقد استقدموا أساساً من الدول الغربية، بالإضافة إلى بعض الدول العربية كما رأينا (والتي كان الكثير منها تحت الاستعمار او الانتداب الأوروبي). وهكذا تدفقت الحشود من الخبراء الاقتصاديين، والمهندسين، والعسكريين، والجيولوجيين، وغيرهم، إلى دول الخليج. وإذا كانت البحرين هي بداية تدفق "المستشارين الاستعماريين" في الخليج، قد كانت الكويت بداية التدفق الحقيقي من ناحية "خبراء التنمية" في الخليج.
اختلاف جوهري آخر بين الكويت والبحرين كان حجم العائدات النفطية المتدفقة. ففي البحرين، كان الارتفاع في إيرادات الدولة كبيراً، إلا أنه ارتفع تدريجياً وبنسب أقل عند مقارنته بالكويت. ففي فترة ما قبل النفط، وصلت الإيرادات في البحرين أوجها عام 1926 عند 1.4 مليون ربية هندية (أي حوالي 100 ألف جنيه إسترليني).[30] ومع تدفق النفط، ارتفعت الإيرادات تدريجياً حتى وصلت إلى 4.3 مليون ربية هندية (أي حوالي 322 ألف جنيه إسترليني) عام 1937 ميلادي، أي تضاعفت الزيادة بحوالي ثلاث مرات على مدى عشر سنوات فقط. أما في الكويت، فمن غير المعلوم ما كانت عليه إيرادات الحاكم في فترة ما قبل النفط، ولكنها قطعاً كانت أقل من الإيرادات التي كانت تحصل عليها حكومة البحرين في أوج تصدير اللؤلؤ قبل الكساد العالمي، التي كما رأينا بلغت حوالي 100 ألف جنيه. في المقابل، فبحلول عام 1955 كانت إيرادات الكويت من النفط قد تعدت 100 مليون جنيه، أي أنها تضاعفت أكثر من ألف مرة في فترة محدودة جداً.
بغض النظر عن الأرقام الدقيقة، فإن نقطتنا الأساسية هي أن الكويت تمثل أول دولة في الخليج شهدت "طفرة نفطية" بمعنى الكلمة بين ليلة وضحاها، بحيث تدفق الثراء على الدولة بشكل لم يكن حتى ممكناً تخيله في الماضي القريب، وذلك دون تطور مواز في قوى الإنتاج. عندها، ظهرت مشكلة جديدة وهي: ما العمل بهذه الثروة المفاجئة؟ من هذه الناحية، أسست القاعدة المتبعة في البحرين (الثلث بالثلث بالثلث) الإطار العام لعملية توزيع إيرادات النفط في الكويت أيضاً، وإن اختلفت الأرقام والنسب. فالمبدأ العام كان متشابها في كل هذه الدول، حيث استثمِر جزء كبير من الإيرادات في الخارج في سندات بالجنيه الإسترليني، وجزء معتبر استخدم كمخصصات لشراء الأراضي أو للعائلة الحاكمة كما هو الحال في البحرين. أما الجزء المتبقي، فقد وجِّه نحو الخدمات العامة وأعمال "التنمية"، حيث وصلت هذه المشاريع، التي قادها "خبراء التنمية" الجدد، إلى مستويات لم تكن معهودة في المنطقة، وتخطت تلك التي في البحرين بأشواط.
اختلاف آخر بين الكويت والبحرين تمثل في تقنين الكويت لمخصصات الحاكم في دستور 1962 بعد حصولها على الاستقلال عام 1961، ووضعتها تحت مراقبة ديوان محاسبة مستقل يتبع مجلس الأمة المنتخب. وعلى الرغم من توجيه جميع إيرادات النفط إلى الحاكم في بدايات تصدير النفط، حيث كان هناك خلط بين المال الخاص له والمال العام للدولة، إلا أنه بحلول عام 1963 كانت المبالغ المستحقة للحاكم سنوياً مثبتة بحكم القانون، بحيث قدر المبلغ المخصص بـ 10 ملايين دينار كويتي، ما شكل 5.2% من ميزانية الدولة في تلك السنة.[31]
إلا أنه برزت آلية أخرى ساهمت في توزيع العوائد النفطية على المتنفذين. وكان ذلك عبر شراء الحكومة للأراضي منهم بأسعار مضخمة بعد تسجيل مساحات كبيرة من الأراضي بأسمائهم. وعلى الرغم من استفادة الكثير من المواطنين من هذه العملية عبر تثمين بيوتهم القديمة والحصول على مبالغ في مقابلها، إلا أن الغالبية من مبالغ شراء الأراضي ذهبت إلى المتنفذين الذين كانت مساحات كبيرة من الأراضي مسجلة بإسمهم. وهكذا، ففي حين استحوذت مخصصات العائلة الحاكمة في الفترة من 1952- 1970 على نسبة 2.7 % فقط من عائدات النفط، استحوذت مصروفات شراء الاراضي على 20.6% من إجمالي الإيرادات النفطية في نفس الفترة. وبذلك أسس لعامل آخر يدعم سيطرة كبار المتنفذين على السلطة والاقتصاد عبر التحكم في الأراضي. وكما كان الحال في البحرين، حصل أعضاء العائلة الحاكمة على إعفاءات وتخفيضات في مدفوعات الطاقة والمياه والجمارك، بل إن الوثائق البريطانية تبين تأثير ما كان يتبع في البحرين على ما حصل في الكويت من هذه الناحية، إذ كان أعضاء العائلة الحاكمة والمستشارين في الكويت يستعملون الحال في البحرين كسابقة يبنى عليها، ما يبين التلاقح والتشابك في الأحداث بين الدول المختلفة وكيفية تأثيرها على بعضها البعض. [32]
وهكذا، تمأسس نمط الحكم المطلق النفطي المحدث في الكويت بطريقة مشابهة لتلك المتبعة في البحرين، مع وجود بعض الاختلافات. وكان ذلك عبر تحكم العائلة الحاكمة في أهم مفاصل ومؤسسات الدولة، بالإضافة إلى حصولهم على الدعم الغربي. زد على ذلك حصولهم على نسبة معتبرة من إيرادات النفط كمستحقات خاصة، وتحكمهم في أوجه صرف الإيرادات المتبقية عبر مناصبهم في الدولة. هذا فضلاً عن تحكمهم في الأراضي المسجلة باسمهم، والتي مثلت مصدراً لقوة اجتماعية وسياسية واقتصادية جديدة.
الحكم المطلق المحدث نفطياً في الإمارات وقطر وعمان
كانت قطر الدولة التالية تحت الحماية البريطانية التي اكتشف النفط فيها وبدأ تصديره عام 1949. وسرعان ما توجهت أعين البريطانيين إلى تثبيت نفوذهم في قطر. وقبل عصر النفط، كانت قطر تعتبر ذات اهتمام ثانوي بالنسبة للبريطانيين، إذ لم تبرم اتفاقية حماية مع حاكمها حتى عام 1916. وحتى بعد هذه الاتفاقية، لم يرسل البريطانيون وكيلاً سياسياً لقطر حتى عام 1949، أي عند بدء تصدير النفط، حيث أصبحت قطر بين ليلة وضحاها منطقة ذات أهمية عالية بالنسبة لهم. ففي نفس السنة ، تم إرسال وكيل سياسي إلى قطر، وأجبر البريطانيون الحاكم على "التنحي عن الحكم" نظراً لسوء إدارة الدولة وإيراداتها من وجهة نظرهم، ليأخذ مكانه ابنه الشيخ حمد. ومع الأمير الجديد، أرسل البريطانيون "مستشاراً" على غرار بلجريف عام 1950 للإشراف على تطوير البيروقراطية الحديثة، وتنظيم مخصصات الميزانية، ووضع خطة تنمية للبلاد.[33]
إلا أن البريطانيين لم يبسطوا سيطرتهم المطلقة على الحكم في قطر، وكانت إحدى أهم الصعوبات التي تطرق إليها البريطانيون هي الخلافات بين أعضاء العائلة الحاكمة حول مخصصاتهم من عائدات النفط والمطالب المتواصلة بزيادتها. ففي عام 1950/1951 على سبيل المثال، وهي السنة الثانية التي وضعت فيها ميزانية رسمية لقطر، تم تخصيص ما لا يقل عن 3 مليون ربية للعائلة الحاكمة من إجمالي دخل النفط الذي بلغ 7 ملايين ربية. وبحلول عام 1959، كانت مخصصات العائلة المالكة قد تجاوزت 50% من عائدات النفط. وانتهى الأمر بعدم تمكن المستشار البريطاني من بسط سيطرته بالكامل، على الرغم من وضعه لأسس البيروقراطية والدوائر الحكومية، حتى وصل به الأمر إلى الرحيل، والشعور بالسخط حول الوضع. وقد أدى تفاقم الخلافات بين أعضاء العائلة الحاكمة والبريطانيين حول كيفية تقسيم إيرادات النفط، بالإضافة إلى أزمة مالية بدأت بالتفاقم عام 1959، إلى تسوية بين أفراد الأسرة الحاكمة والبريطانيين، نحي بموجبها الحاكم السابق الشيخ علي، وتسلم الحاكم الجديد الشيخ أحمد الحكم في عام 1960، وتم الاتفاق على أن مخصصات العائلة الحاكمة لن تتجاوز 50% من عائدات النفط.[34]
في عمان والإمارات، لم يجر تصدير النفط حتى ستينات القرن الماضي. ولهذا، فإن مظاهر "التنمية" و"الحداثة" التي وصلت سابقاً إلى البحرين والكويت وقطر ظهرت فيها في عقد لاحق. وقد كان للبريطانيين دور محوري وأساسي في إدارة العملية في هاتين الدولتين، وصلت بهما حتى للإطاحة بالحكام في سبيل بسط نفوذهم على السلطة وفي سبيل تحقيق "التنمية"، التي أصبحت الهوس الجديد للبريطانيين في جنوب الخليج.
اشتهر سلطان عمان بشحّ صرفه على البلاد. ففي الميزانية التقديرية لمسقط لعام 1949، بلغت المصروفات 15.5 لاخ (لاخ = مئة ألف ربية)، انصبت أساساً على الدفاع والخدمة المدنية والإدارة.[35] ولم تحصل الصحة والتعليم سوى على 0.03 لاخ و0.45 على التوالي، بينما ذهبت 15.5 أخرى إلى الفائض. وفي خضم الافتتان بـ" التنمية" الذي ساد المؤسسات الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، أرسلت بريطانيا خبيراً اقتصادياً لاستعراض حالة الاقتصاد العماني في عام 1951، والذي كان في هذه المرحلة يعتبر متأخراً نسبياً عند مقارنته بدول شمال الخليج. ولم يجد الخبير أي ميزانية رسمية، وبحسب كلامه "فإن الإدارة بها لا تزال بدائية، والعادة المتبعة هي أن عائدات السلطان تعتبر سراً طي الكتمان".
وقد أوضح التقرير كيفية اتخاذ القرارات المالية، ومرة أخرى نعتذر للقارئ عن النظرة الاستشراقية والمتعالية فيه:
"الجمود الذي تعاني منه الإدارة أساسها هو السلطان. وهو محافظ بطبعه ويطارده شبح ذكرى إفلاس والده. لذلك فإنه يرفض تفويض السلطة، وغيابه لفترات طويلة في منطقة صلالة يبعده ولا يمكنه من إدارة الدولة بشكل فعال. ويزعم المبشرون الأمريكيون، اللذين عرفوه منذ أيام طفولته، بأنه يتمنى بأن يبقى شعبه متخلفاً، حيث أنه مقتنع بأن التعليم هو ما أنهى حكم الاستعمار البريطاني في الهند. وفي كل الأحوال، فإن التقدم يعتبر مفهوماً غريباً عن تقاليد عمان الداخل، وقد يتعذر السلطان بأنه لن يستطيع أن يستعيد قبضته على أتباع الإمام إذا انغمس في التجربة الحداثية."
وعن منطقة ظفار، يواصل التقرير بأنه " تم التعاطي مع هذه المحافظة من قبل السلطان وكأنها مزرعة خاصة، ويتم التعامل مع إنفاقات المنطقة وإيراداتها بشكل منفصل تماماً عن الشؤون المالية المعتادة للدولة." [36]
وقد كانت معاملة السلطان هذه أحد أسباب اندلاع ثورة ظفار في منتصف الستينات، التي كان من شأنها هز أسس الحكم في السلطنة، بل في شبه الجزيرة العربية كلها. و بحلول عام 1970، رأى المسؤولون البريطانيون بأنه لا أمل في القضاء على الثورة سوى عبر تغيير السلطان والبدء في عملية تحديث لإدارة الدولة و"التنمية" في البلاد، فنفذوا انقلاباً على السلطان السابق سعيد بن تيمور وثبتوا ابنه السلطان قابوس في مكانه.[37]
وقد أدار عملية بناء بيروقراطية الدولة وتحديثها بعد الانقلاب فيلق من المستشارين البريطانيين، غالبيتهم من ذوي الخلفية العسكرية. وكان تيم لندن (Tim Landen) أشهر هؤلاء المستشارين، وقد عمل كمستشار أعلى لأمور الدولة بطريقة مماثلة لبيلجريف في البحرين. كما اشتهر المستشار تيموثي أشوورث (Timothy Ashworth)، الذي استلم شؤون الإعلام والعلاقات الخارجية، وديفيد بايلي (David Bailey)، الذي تولى عملية تأسيس و"حرفنة" الجيش.[38]
وعلى الرغم (أو ربما بسبب) هذا النمط من التحديث، تواصلت مشاكل الميزانية تحت حكم السلطان الجديد. ففي عام 1971، تم إنفاق 20% من الميزانية على القصور، ولم تشمل هذه نفقات السلطان على الرحلات والكماليات. في المقابل، خصص 40% من عائدات الدولة للإنفاق العسكري، الذي تركز أساساً على مواجهة الثورة في الظفار.[39] واستمر ارتفاع هذه الإنفاقات في العام التالي، فمن الميزانية العامة المقدرة بـ 50 مليون ريال عماني، استحوذ الإنفاق العسكري على 30 مليون. وقد وصلت مالية الدولة إلى نقطة حرجة في تلك السنة بين الإنفاق الشخصي للسلطان والمتطلبات العسكرية لمواجهة الثورة، ولم يتم انقاذ الوضع إلا عبر منحتين ماليتين ضخمتين من السعودية وأبوظبي، بحيث أصبحت التحويلات بين حكومات الخليج لدعم ومساعدة بعضها البعض أمراً متكرر الحدوث. [40]
ومع حلول الطفرة النفطية في منتصف السبعينات، كان السلطان الجديد قد ثبت حكمه، وهزمت الثورة بحلول عام 1975. وقد تكون عمان في فترة حكم السلطان قابوس هي المثال الأقرب إلى النمط المثالي (ideal type) من "الحكم المطلق المحدث نفطياً"، وذلك لارتكاز قوة الدولة بشكل كبير في شخصية السلطان بشكل منفرد. وعلى عكس باقي دول الخليج، فإن قوة ونفوذ باقي أعضاء العائلة الحاكمة قد ظلت ضعيفة نسبياً. والهالة التي بنيت حول السلطان، وربطه بشكل جذري مع بناء الدولة، تجعل شخصه أقرب إلى "الحاكم ذو السيادة المطلقة" (the sovereign) من بين كل دول الخليج.
تتشابه الأحداث في أبوظبي في جوانب كثيرة مع ما حصل في عمان. فلم يصدر النفط حتى عام 1962، وكان البريطانيون هناك أيضا تحت الانطباع بأن هناك حاجة للتنمية الاقتصادية العاجلة، واعتقدوا أنهم سيواجهون مع الحاكم الشيخ شخبوط موقفاً مشابهاً لما واجهوه مع سلطان عمان السابق. فقد نظر البريطانيون إلى الشيخ شخبوط بأنه غامض، عديم الانتظام، وبخيل، وأنه لا يعترف بضرورة إنفاق المال على التنمية الداخلية. وعموماً كان ينظر إليه كشخصية خارجة عن السيطرة. وفي عهده، خصصت عائدات النفط للحاكم شخصياً، الذي كان يوزعها كما يرى، بحيث كان "يعتبر نفسه الآمر الناهي المطلق داخل البلد، ولا يحق لأحد مساءلته في أي شيء. بحيث كان الحكم الوحيد في الشؤون الداخلية ولا يقبل النصيحة من أحد." [41]
في نهاية المطاف، أدت حدة الغضب لدى باقي أفراد الأسرة الحاكمة، إلى جانب عدم الرضا البريطاني تجاه حكمه، إلى الإطاحة بالشيخ شخبوط ونفيه إلى خور مشاهر في إيران في انقلاب قاده البريطانيون في أوائل اغسطس عام 1966. وحل محله شقيقه الشاب الكاريزماتي الشيخ زايد، ومن بعدها بدأت عملية تحديث الدولة وبيروقراطيتها والخدمات التي تقدمها، والتي تحملت تكلفتها إيرادات النفط المتضخمة. [42]
وهكذا، وفي غضون خمس سنوات بين 1965 و1970، تمكن البريطانيون من عزل 3 حكام قسراً في جنوب الخليج (الشارقة عام 1965، وأبوظبي عام 1966، وعمان عام 1970)، هذا بالإضافة إلى الحاكمين الذين تم تدبير "تنازلهما" في قطر في 1949 و1960. وفي جميع الحالات، فمن وجهة نظر البريطانيين، مثّل انعدام الحداثة وانتشار "اللاعقلانية" في الدولة في ظل الحكام الذين أطيح بهم احد أهم الأسباب للتدخل، في عصر كان يرون أنه ينبغي للدولة فيه أن تتوجه نحو التطوير والتحديث و"التنمية". ولذلك، كان الحكم والدولة بحاجة إلى إعادة تنظيم من وجهة نظرهم، ونتج من ذلك الحكم المطلق النفطي المحدث الذي ثُبت من تلك الفترة حتى يومنا هذا في الخليج، والذي بنى مبدأ إعادة إنتاجه حول مركزية الحاكم من عائلة معينة في أعلى هرم السلطة، وحصر مفاصل مؤسسات الدولة الرئيسية في كبار أفراد عائلته، مع دور محوري "للمستشارين" الأجانب في بناء البيروقراطية الحديثة. وقد قامت هذه الدولة بتمويل إعادة إنتاجها عبر إيرادات النفط، التي أعطتها استقلالية مالية من باقي فئات المجتمع، على الرغم من اعتماديتها المتزايدة على بيع النفط في الخارج لتمويلها. ومولت إيرادات النفط هذه الميزانيات الخاصة للحكام وأفراد عائلتهم والأجهزة القسرية الواقعة تحت إمرتهم، بالإضافة إلى بناء باقي أجهزة الدولة.
الحكم المطلق المحدث نفطياً في المملكة العربية السعودية
كما ذكرنا سابقاً، فإن تاريخ بناء الدولة في المملكة العربية السعودية يختلف إلى حد ما عن بقية دول مجلس التعاون الخليجي، بل وحتى عن العالم العربي، حيث لم يدخل الاستعمار الغربي (وبالذات البريطاني) إلى تلك الأراضي. وعلى الأقل في بداياتها، اتخذت الدولة السعودية منحى قد يكون أقرب إلى نظرية شارلز تيلي حول تكوين الدولة في أوروبا، إذ بنيت الدولة السعودية أساساً على الحرب وعلى التوسع الجغرافي، على الرغم من أن البيروقراطية المنظمة لم تكن قد نمت بعد.[43] إلا أن ذلك لم يعن انعدام نفوذ البريطانيين على حاكم السعودية الأول الملك عبد العزيز، وإن كان هذا النفوذ أقل حدة من المناطق الأخرى. فقد وقع البريطانيون اتفاقية دارين مع الملك عبد العزيز في عام 1915، التي اعترف بموجبها الإنجليز بمملكة نجد بل ووفروا الحماية الاسمية لها. كما قاموا بتقديم الدعم المادي والسلاح للملك عبد العزيز خلال حملاته العسكرية قبل أن يصبح ملكاً، وشاركوا في معركة السبلة الحاسمة ضد الإخوان بقيادة فيصل الدويش عبر طائراتهم الحربية، وكانت هذه الطائرات هي كلمة الفصل التي أنهت فعلياً تمرد الإخوان على مؤسس الدولة السعودية الثالثة. بالإضافة إلى ذلك، ساهم الإنجليز في رسم حدود المملكة السعودية الأولى (وكانت حينها مملكة نجد) مع العراق والكويت. هذا بالإضافة إلى أن التجارة في المناطق التي أصبحت فيما بعد جزءاً من الدولة السعودية، خصوصاً في الحجاز والمنطقة الشرقية، كانت جزءاً من شبكة التجارة البريطانية الممتدة على مدى المحيط الهندي من الهند إلى شرق إفريقيا والسويس.
ومع بداية تصدير النفط بشكل مكثف بعد الحرب العالمية الثانية، تطور الحكم المطلق المحدث نفطياً في السعودية بشكل مشابه لما حدث في باقي دول الخليج، وإن كانت لكل دولة خصوصيتها. ففي السنوات الأولى من الحكم وحتى وفاة مؤسس الدولة الملك عبد العزيز في عام 1953، لم توجد بيروقراطية إدارية إلا بالكاد، وقد اعتمدت أساساً على البيروقراطية المتواجدة سابقاً في الحجاز تحت الحكم العثماني لإدارة أمور الدولة الأساسية، وقد كانت إيرادات النفط وتوزيعها أساساً في يد الحاكم.
وفي شكل مماثل لما حصل في الكويت، اعتمد الملك أساساً على مزيج من المستشارين العرب، كحافظ وهبة من مصر الذي أيضا قضي مدة في الكويت والبحرين، بالإضافة إلى المستشارين الغربيين، الذين قد يكون أشهرهم سانت جون فيلبي، المستشرق البريطاني الذي اشتهر بانشقاقه عن الأجهزة البريطانية للعمل مع الملك، حيث قام باعتناق الإسلام وإدارة مفاوضات الملك مع شركات التنقيب النفطية في بداية عصر النفط.
وكما كان الحال مع باقي إمارات الخليج، فمع بداية الخمسينات بدأ التوجه بالتغير نحو معالجة قضايا "التنمية" واستقطاب خبرائها، خصوصا من الغرب، وفي مقدمتهم خبراء الاقتصاد. فنشطت مؤسسات دولية كفورد، والأمم المتحدة، ومنظمة العمل الدولية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وجيش كبير من التكنوقراط الدوليين، صعد جميعهم على متن الطائرات المتوجهة إلى مطارات الخليج الحديثة، بالإضافة الى بناء كادر من التكنوقراط المحلي، وذلك في سبيل تنفيذ رؤية حداثية لإعادة تنظيم المجتمع، عكست ما يعتبره "خبير التنمية" الحال الأفضل للشعوب الواقعة تحت رقابته.
اشتدت حدة هذا التوجه نحو خبراء التنمية في ظل الأزمة المالية لعام 1957 والتي كادت تطيح بالاقتصاد السعودي، وشكلت مفرقاً هاماً في نمط الإدارة المالية في السعودية بل وفي الخليج ككل. فكما يروي التقرير الاقتصادي للسفارة البريطانية في المملكة العربية السعودية في عام 1958:
"تعاني السعودية حالياً من أزمة في العملة والاقتصاد. ولا تحتاج أن تبحث طويلاً لتحدد العوامل وراء الصعوبات الحالية. فقد كانت نفقات الحكومة السعودية خلال السنوات الأخيرة، وخصوصاً تلك المتعلقة بالعائلة الحاكمة، مبنية على افتراض الكمية القصوى من الإنتاج النفطي، وكثيراً ما تجاوزت هذه النفقات الإيرادات النفطية. ولذلك فقد كان الاقتصاد غير جاهز لمواجهة الركود الذي تلى أزمة السويس 1956، عندما قام الملك سعود بقطع إمدادات النفط إلى مصنع التكرير في البحرين كبادرة منه للتضامن العربي، وكان هذا يمثل خمس إجمالي إنتاج ارامكو. زد على ذلك تقلص مبيعات النفط للأسواق الأخرى بسبب النقص في المخازن خلال الفترة التي تلت هذه الأزمة. وأخيراً، فاقم بيع ريال الفضة السعودي من نفاد الاحتياطات الرسمية من العملات الأجنبية." [44]
وقد وصلت خطورة الأمر في بداية عام 1957 إلى إقحام القيود على صرف العملة نظراً للضغط عليها، التي انخفضت قيمتها من 100 ريال = 125 روبية هندية إلى 100 ريال = 82 روبية. ونتيجة لانخفاض العملة ظهر نقص في المواد المستوردة، بما فيها الضروريات كالغذاء، وارتفعت تكلفة المعيشة بشكل ملحوظ، بمستويات وصلت إلى 35 إلى 40 بالمئة فوق مستوى اكتوبر 1956.
ويستمر تقرير السفارة البريطانية:
"دعا الملك سعود الدكتور أحمد زكي سعد كمستشار من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وقام سعد بمقابلة مطولة مع الملك، حيث وضح بلغة لا لبس فيها المخاطر الحقيقية لاستمرار المعدل الحالي للإنفاق غير المقيد، والإسراف من قبل كل من الحكومة والعائلة الحاكمة. ويقول مصدر موثوق، بأن سعداً حذر الملك سعود أنه إذا كان يرغب بمصير الملك فاروق (حاكم مصر السابق الذي أطيح به مؤخراً)، فما من طريقة أفضل من مواصلة السياسات الحالية.
وخلال استعراضه لحالة المالية السعودية، أبلغ سعد الملك سعود أن الدين الحكومي زاد على 700 مليون دولار أمريكي (وهو مبلغ يعادل سنتين كاملتين من الإيرادات النفطية) ... وأكد سعد أن الريال في خطر، وأن التقشف بات الآن مسألة ملحة جداً".[45]
وسرعان ما طبقت إصلاحات اقتصادية في السعودية منذ ذلك العام. فمن ناحية ميزانية الدولة، أصبحت السياسة العامة متركزة في محاولة إدارة النفقات والعائدات النفطية بشكل تكون فيه الميزانية متوازنة ولا تتعدى نفقات إيرادات النفط بكثير. كما تم وضع ونشر ميزانية مفصلة نسبياً (إذا ما قورنت بتلك المنشورة في عصرنا الحالي)، وكانت تشمل مخصصات العائلة الحاكمة. كمثال، اعتبرت ميزانية العام 1960/1961 ميزانية تقشفية في خضم الإصلاحات المالية التي قامت بها الحكومة، حيث قام رئيس الوزراء آنذاك الأمير فيصل بتخفيض مخصصات الملك والعائلة الحاكمة بنسبة وصلت إلى النصف. وبينت هذه الميزانية أن 55 مليون دولار، والتي شكلت 14.4% من الميزانية، ذهبت إلى مخصصات الملك والعائلة الحاكمة، وكانت أكثر من تلك المكرسة لمشاريع "التنمية الاقتصادية".[46]
واستمر هذا الحال على مدى العقد القادم. فعلى سبيل المثال تبين ميزانية 1970/1971 المقدرة بـ 6.380 مليار ريال، والتي كان عندها الأمير فيصل قد أصبح ملكاً، بأن الخزينة الخاصة للملك حصلت على 173.1 مليون ريال سعودي، بنسبة تساوي 2.7% من الإنفاقات، إلا أن وزارة الدفاع وفروعها حصلت على نسبة 28.5% من الميزانية. استمر الحال في ميزانية السنة القادمة 1971/1972 المقدرة بـ 10.782 مليار ريال سعودي، حيث بقيت قيمة الخزينة الخاصة للملك ثابته عند نفس القيمة من الريالات، وبذلك انخفضت إلى (1.6%) من مصروفات الميزانية، فيما حصلت وزارة الدفاع وفروعها على 2.347 مليار ريال سعودي (23.5%)، وكان هذا المبلغ أكثر من ثلاثة أضعاف مخصصات التعليم وعشر أضعاف مخصصات الصحة. وفي كل هذه السنوات، خصص ما يقارب 10% من الإيرادات العامة كتحويلات دعم إلى مصر والأردن في أعقاب اتفاق الخرطوم بعد هزيمة 1967 ضد إسرائيل. وهكذا، فإن الخانات الثلاث من المخصصات الملكية، وميزانية الدفاع، والمساعدات الخارجية كانت تستحوذ على أكثر من 40% من ميزانية هذه السنوات.[47]
وهكذا، تبلورت في السعودية حالة مشابهة لتلك التي في البحرين أو الكويت أو قطر أو عمان أو أبوظبي: نسبة معينة من الإيرادات كانت تذهب كمخصصات للعائلة الحاكمة، التي تحكمت أيضاً في توزيع باقي الإيرادات عبر إدارة أعضائها لأهم مفاصل الوزارات والمؤسسات الأساسية في الدولة، التي استُقدم الخبراء والتكنوقراط من الغرب والدول العربية لبنائها، والتي رسخت نظام الحكم المطلق المحدث نفطياً وسيطرة العائلة الحاكمة على مفاصله، بالإضافة إلى النظرة إلى إيرادات النفط وكأنها كعكة تتقاسمها الأطراف الخاصة، لكل طرف في المجتمع نصيبه منها.
بروز نجم شركات الاستشارات الإدارية في القرن الواحد والعشرين
إلا أنه وعلى عكس باقي دول الخليج، كانت الدولة الغربية التي امتدت هيمنتها على السعودية هي الولايات المتحدة الأمريكية، التي سرعان ما وسعت نفوذها ليشمل كل دول الخليج ولتأخذ مكان بريطانيا كعرابة المؤسسات الغربية المهيمنة على دول الخليج العربية، التي أصبحت بدورها تتكل على الولايات المتحدة لتوفير الأمن العسكري وتوفير الكثير من مستشاري الدولة من "الخبراء". فبالإضافة إلى الحضور العسكري المتزايد في منطقة الخليج منذ أن أصبحت الولايات المتحدة هي القوة العسكرية والاقتصادية العظمى في العالم، بحيث تحولت دول الخليج إلى إحدى أهم مساحات النفوذ الأمريكي العسكري في العالم،[48] تبوأ المستشارون الأمريكيون وأولئك القادمين من المؤسسات التابعة لنفوذ أمريكا الدور الذي كان يلعبه "مستشارو" المستعمرين البريطانيين سابقاً في رسم السياسات العامة في الخليج. وبذلك، تجذرت الاعتمادية على المستشارين الغربيين من قبل حكومات دول الخليج كتقليد سارٍ منذ أيام المسؤولين العسكريين البريطانيين في النصف الأول من القرن العشرين، مروراً بمستشاري التنمية من خمسينات إلى ثمانينات القرن العشرين، وانتهاء بصنف جديد من المستشارين الغربيين، الذين اشتد عودهم في الألفية الجديدة على وجه التحديد، والذين تجسدوا في شكل شركات الاستشارات الإدارية (management consultancy companies).
ارتبط ظهور الشركات الاستشارية في القرن العشرين في أمريكا ببروز دور المدير المحترف، بناء على حاجته للنصائح والاستشارات في القرارات التي يتخذها، وبطبيعة الحال تركزت الظاهرة بداية في شركات القطاع الخاص.[49] وعلى الرغم من تركيز شركات الاستشارات بداية نشاطها على تقديم المشورة حول الأمور التشغيلية والتنظيمية في الشركات، إلا أنها سرعان ما توجهت نحو "الاستشارات الاستراتيجية". فعلى مدى القرن العشرين برزت شركات عملاقة متعددة الأطراف والأنشطة في عالم متحول وشديد المنافسة، ما جعل رسم استراتيجية خاصة لها وتطبيقها أمراً ملحاً. ومع انتشار مبدأ الخصخصة و"النيولبرالية" في ثمانينات القرن العشرين، بدأت شركات الاستشارات بالدفع نحو استعمال أساليب إدارة الشركات الخاصة في إدارة المؤسسات الحكومية العامة. ومنذ ذلك الحين، مثّل قطاع الإدارة العامة وتقديم الاستشارات للحكومات سوقاً جديداً ضخماً لشركات الاستشارات. وكانت دول الخليج من أوائل من لجأ إلى هذه الشركات منذ ستينيات وسبعينات القرن الماضي.
وعلى الرغم من لجوء عدة دول لاستعمال الشركات الاستشارية في رسم استراتيجياتها، إلا أن دول الخليج انفردت بدرجة اعتماديتها على هذه الشركات، حيث تركز عمل الشركات الاستشارية في دول مجلس التعاون أساساً في المؤسسات الحكومية والمشاريع العامة، فيما كان تواجدها في القطاع الخاص البحت محدوداً جداً. وقد توسع عدد الشركات الاستشارية في دول المنطقة على مدى القرن الحادي والعشرين، حتى وصلت حدة الاعتمادية في القطاع العام على هذه الشركات لدرجة تسليمها زمام رسم وتطبيق أهم استراتيجياتها الاقتصادية. ومن النادر أن تجد دولة تسلم إرادياً مبدأ رسم ووضع خططها الاستراتيجية إلى شركات استشارية أجنبية بنفس الوتيرة التي تبنتها قيادات المنطقة.
وتعتبر عملية وضع خطط اقتصادية وطنية طويلة المدى ممارسة معتادة في فن إدارة الدول، ولكن عادة ما توضع هذه الخطط من قبل التكنوقراط الوطنيين والخبراء، بالتزامن مع الممثلين المنتخبين الذين من المفترض أن يمثلوا الشعب. وفي حالة بعض البلدان سيئة الحظ، كما اكتشفت اليونان في القرن الحادي والعشرين، قد تُجبَر تلك الدول على قبول مثل هذه الخطط كجزء من "حِزمة شاملة" من الإصلاحات للحصول على معونات من قِبل مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. لم تواجه شركة ماكينزي مثل هذه القيود في منطقة الخليج، فالحكّام في المنطقة لا يدينون بالفضل للهيئات المنتخبة ولا لآراء التكنوقراط المحليين، ولا هم مجبرون على تبني هذه الخطط من جهات تقدم لهم القروض أو المعونة. ولكنهم بدلاً من ذلك يدفعون مليارات الدولارات بمحض إرادتهم لتلقي المشورة من الشركات الاستشارية، حيث أنفقت المملكة العربية السعودية وحدها أكثر من مليار دولار على المستشارين في عام 2015.[50]
باختصار، كلّفت كل دولة من دول الخليج شركة استشارية غربية لوضع "رؤية اقتصادية" توضح الطريق نحو مستقبل ما بعد النفط في القرن الحادي والعشرين.[51] وعلى الرغم من ربط نمط شركات الاستشارات في صرعتها الحالية بما يسمى بالنيولبرالية أو الإداروية (managerialism)، بحيث يجري التعامل مع غالبية مهام الدولة وكأنها مشاريع استثمارية، فإن إدمان دول الخليج على المستشارين الغربيين يمتد لقرن من الزمن تقريباً. فكما رأينا، تكررت قصة الحكام الطموحين المتعاونين مع الخبراء الغربيين في سبيل إدارة اقتصاد البلاد في الخليج، بل إنها في صلب فنون الحكم في الدولة، بحيث يقوم التاريخ بإعادة إنتاج نفسه، كل مرة في حلة جديدة. فتارة كانت في شكل الإداريين الاستعماريين البريطانيين، وتارة في شكل خبراء التنمية من المؤسسات الدولية، وتارة في شكل شركات الاستشارات الإدارية.
خلاصة: الاستفراد في السلطة والنفط في ظل الهيمنة الغربية
وإذا ما عدنا إلى سؤالنا الأساسي في هذا القسم، وهو ما هي طبيعة نظام الحكم الذي برز في الخليج في القرن العشرين، فبإمكاننا القول بأن هذا النمط من فنون الحكم قد بني على تركيز وحصر القوة السياسية المحلية بيد الحاكم وعائلته، وذلك عبر احتكار أدوات القسر، التي كانت متاحة في السابق لكوكبة من الشيوخ المختلفين، والتي تم تحييدها وإنشاء جهاز شرطة وجيش محترف يحتكر استعمالها. ثانياً، كانت المؤسسات الغربية والحماية التي توفرها تدعم الحاكم وتمنحه الشرعية كالحاكم المطلق للبلد، وبدأ ذلك أولاً مع الهيمنة البريطانية لينضوي بعد ذلك تحت المظلة الامريكية، والتي ما زالت تلعب دوراً محورياً في صياغة القرارات المصيرية المتعلقة بعلاقات المنطقة الدولية. ثالثاً، استقدِم "الخبراء" الأجانب، بعضهم من البريطانيين والأمريكيين وبعضهم من العرب، لبناء البيروقراطية الحديثة ومقوماتها في الخليج، من المحاكم إلى القوانين إلى دوائر الدولة إلى ميزانيتها المدققة. رابعاً، توزع أعضاء العائلة الحاكمة، أو على الأقل الكبار منهم، على أهم المناصب والمؤسسات في هذه الدولة الجديدة، خصوصاً تلك التي تسمى بالسيادية، وبدأ السعي نحو بناء كادر بيروقراطي من الخبراء والتكنوقراط المحليين الذين عملوا تحت السيطرة العامة للعائلة الحاكمة. وهذا التوزع لأقطاب العائلة الحاكمة على أغلب مفاصل الدولة الرئيسية ثبت نفوذهم، وربط مبدأ الدولة بهم بشكل عضوي، حتى صار من الصعب التفرقة بين الدولة وبين العائلة الحاكمة.
خامساً، بدأت إيرادت النفط بالتدفق وتمركزت لدى الدولة، أو بالأخص الحاكم، حيث كانت إيرادات النفط هي الأداة التي مولت إعادة إنتاج الدولة واستمراريتها مالياً، عبر سماحها باستقلالية الحاكم وجهازه البيروقراطي من باقي المجتمع مادياً، حتى لم يعد هناك داع لفرض الضرائب. إلا أن هذا فرض على أجهزة الدولة الاعتماد على العالم الخارجي ليواصل ضخها بإيرادات النفط، حتى تضمن الدولة الأموال المطلوبة لإعادة إنتاج نفسها. وهكذا كانت لتقسيمة إيرادات النفط دور محوري في صنع نمط الحكم، حيث خصص جزء كبير من إيرادات النفط كمخصصات للحاكم وعائلته. بالإضافة إلى ذلك، تحكم أعضاء العائلة الحاكمة في الموارد الاقتصادية الأساسية الأخرى في البلد، خصوصاً الأراضي العقارية، التي أصبحت وسيلة للنفوذ والثراء. وبهذا، اضحى الحكم المطلق ظاهرة ثابتة في دول الخليج العربية، حتى بدى وكأنه ارتبط بالمنطقة منذ الأزل، وطمرت صيرورته كنظام حديث تبلور اساساً خلال فترة الاستعمار البريطاني من القرن العشرين.
لقراءة الجزء التالي من الاصدار
لقراءة النسخة الكاملة من الاصدار (pdf)
لتصفح محتويات الاصدار الكترونيا
عمر الشهابي، تصدير الثروة واغتراب الانسان: تاريخ الخلل الإنتاجي في دول الخليج العربية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2018).
خالد الدخيل، الوهابية بين الشرك وتصدع القبيلة (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2013).
عمر الشهابي، تصدير الثروة واغتراب الإنسان، الفصل الثامن.
وهنا يجب التنويه ان الكويت في عهد الحاكم عبدالله السالم اصدرت تشريعاً يقنن ملكية الاراضي في الدولة ويحد من ظاهرة استملاكها بشكل فردي، بحيث اصبحت رسمياً كل الاراضي خارج منطقة معينة ملكاً عاماً لا يجوز التصرف فيها الا بقرار رسمي من الدولة.
للمزيد حول عمان في بداية تكوين الدولة راجع:
سعيد سلطان الهاشمي، عمان الإنسان والسلطة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012).
عمر الشهابي، تصدير الثروة واغتراب الانسان، الفصل العاشر.