Reports 2016
- 1. مقدّمة: الخليج بعد خمس سنوات من اندلاع الانتفاضات العربية
- 2. الخلل السّياسي
- 2.1 مقدّمة: الخلل السياسي بعد خمس سنوات من اندلاع الانتفاضات العربية
- 2.2 الخلل السياسي في دول الخليج العربية: استقصاء حول آراء المواطنين في الديمقراطية
- 2.3 المستجدّات السياسية في دولة الكويت
- 2.4 المستجدّات السياسية في سلطنة عمان
- 2.5 المستجدّات السياسية في المملكة العربية السعودية
- 2.6 المستجدّات السياسية في الإمارات العربية المتحدة
- 2.7 المستجدّات السياسية في دولة قطر
- 2.8 المستجدّات السياسية في مملكة البحرين
- 3. الخلل الاقتصادي
- 3.1 مقدّمة: الخلل الاقتصادي بعد خمس سنوات من اندلاع الانتفاضات العربية
- 3.2 التقلبات في أسعار النفط وآثارها على ميزانيات دول الخليج العربية: مقارنة بين عقد الثمانينات والألفية الثالثة
- 3.3 مقابلات: ما هي أهم تطورات الخلل الاقتصادي بعد خمس سنوات من اندلاع الانتفاضات العربية ؟
- 4. الخلل الأمني
- 4.1 مقدّمة: الخلل الأمني بعد خمس سنوات من اندلاع الانتفاضات العربية
- 4.2 السلام الضائع: الجذور التاريخية للصراعات الإقليمية في الخليج العربي
- 4.3 سياسات تغير المناخ وأمن الطاقة في دول مجلس التعاون
- 5. الخلل السّكاني
- 5.1 مقدّمة: الخلل السكاني بعد خمس سنوات من اندلاع الانتفاضات العربية
- 5.2 المرأة وسوق العمل في الخليج
- 5.3 المرأة في ظل سياسات التنمية: حالة قطر
- 6. خاتمة: الخليج إلى أين؟
- الملخص التنفيذي - عربي
الثابت والمتحوّل 2016: الخليج بعد خمس سنوات من الانتفاضات العربية
2.4 المستجدّات السياسية في سلطنة عمان
-
الزيارات: 2076
تغيُّرٌ في الداخل وتغايُرٌ في الخارج
سعيد سلطان الهاشمي
مدخل
لم تكُن السنوات التي أعقبت العام 2011 في عُمان، سنوات متسارعة، متشابكة، كاشفة لواقع السياسة في عُمان (كفكرة وكممارسة) فحسب؛ بل كانت فترة زمنية غاية في التكثيف بتساؤلات الدولة والإنسان وطبيعة العلاقة بينهما، بشكل علني وأكثر وضوحاً من ذي قبل؛ سواء على المستوى الداخلي الساعي للتعبير عن ذاته بشكل مختلف، أوعلى المستوى الخارجي العاكس للمثابرة من أجل نزع فتيل الأزمات، الإقليمية منها والدولية.
أضاءت الاحتجاجات في العام 2011 الكثير من أوجه الخلل البنيوي والهيكلي الذي تعانيه الدولة العمانية المعاصرة في المجمل، وعلى أزمة السلطة السياسية المركزية فيها، والتراكمات المؤجلة لهذا الخلل منذ أربعة عقود. بيد أن السلطة لم تقم بأكثر من بعض المعالجات السريعة والسطحية، مسكونةً بامتصاص الأعراض أكثر من حرصها على معالجة الأمراض جذرياً.
يحاول هذا التحليل رصد أهم ملامح التغيرات السياسية في عُمان داخلياً وخارجياً في الفترة (2011-2015) لمقاربة الفهم وطرح التساؤلات.
الداخل: هل تغيرت معادلة المبادرة؟
وجدت السلطة المركزية في عُمان نفسها أمام وضع مختلف عما ألفته قبل العام 2011؛ وهو أنها لم تعُد تملك زمام المبادرة، ولوحدها، في تحريك الشأن العام. بل أصبحت في مقام إدارة ردة الفعل أكثر مما هي في مقام الفعل، تحاول تارة الإقناع والتبرير لتصرفاتها عند مواجهة الأزمات، وتارة تقع في فخ اللجوء إلى ذات الوسائل التقليدية لعلاج أحداث غير تقليدية. اللافت للمتابعة، في الشأن الداخلي، استماتة السلطة المركزية في إرجاع الوضع إلى ما كان عليه قبل عام 2011، وحرصها على السيطرة والتحكم بأي حراك عام لكي لا يخرج عن الإطار الذي اعتادت عليه طوال العقود الأربعة السالفة.
وفي الوقت الذي يبدو للمتابع أن السلطة أحكمت السيطرة تماماً على المشهد السياسي في البلاد، قد تبرز مسألة "الإحكام" هذه بوصفها مؤشر عجز، وخوف، وقصور في الخيال السياسي المفضي لاستقرار مستدام، أكثر منها نجاعة، تفهم متغيرات الواقع، وتتصرف معه بمرونة وتقدم على مستوى التحديث البنيوي والهيكلي العميق لمفهوم الدولة العصرية، عصرنة تسعى لمشاركة فعلية، وفاعلة في شؤون الإدارة والحُكم.
لم يكن خافياً "حالة الارتباك التي اعترت الحكومة العمانية في الأيام الثلاثة الأولى من احتجاجات صحار التي بدأت في 26 فبراير 2011، ويفسر ذلك بحداثة عهد الحكومة بالتجربة وعدم التنبؤ بها وبعنصر المفاجأة والسرعة الذي تطورت فيه الأحداث. لذلك، طغى في البداية الحس الأمني أكثر من غيره، كما وصفت وسائل الإعلام المتظاهرين بالمخربين، واعتبرتهم بسبب تصرفاتهم لا يمثلون حقيقة العُمانيين والمجتمع العُماني".[1] إلا أن تلك الحلول الأمنية، رغم قسوتها، وتنوعها، ونجاعة تأثيرها "اللحظي"، لم تمنع المجال العام من مواصلة مبادراته الرامية لتطوير الوعي السياسي قدر المستطاع. نعرض هنا نماذج بسيطة على سبيل المثال لا الحصر:
واصل الناشطون العمانيون مطالباتهم بدستور يكفل لهم دولة آمنة، وحقوقاً وحريات مستقرة، بخلاف ما يتم ترويجه من صُوَر تنميطية تسطيحية تحاول أن تصنف العماني بأنه إنسان غير مهتم بالتأطير الدستوري لحقوقه، منعزل لقوت يومه دون أن يكترث للسياسة وأمور الحكم. في المجمل تعاملت السلطة مع هذا الملف إما بالتجاهل أو بالالتفاف عليه، كما حدث على إثر الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها البلاد مطلع عام 2011، والتي تضمنت مطالبها "توسيع صلاحيات مجلس الشورى ليكون مجلساً تشريعياً ورقابياً يحاسب مجلس الوزراء لحين اعتماد الدستور الوطني العماني".[2] أصدر السلطان في مارس من نفس العام المرسوم رقم (39/2011) بشأن منح مجلس عمان الصلاحيات التشريعية والرقابية، وظل هذا المرسوم مبهماً بلا تفاصيل حتى إنحسرت الاحتجاجات وفُضت الاعتصامات. وفي عشية إعلان انتخابات مجلس الشورى في أكتوبر 2011، تم إزاحة الستار عن التفاصيل والتعديلات، والتي أقل ما يقال بشأنها أنها كانت مسكنات وقتية دون طموحات الناشطين بكثير.
استحوذ موضوع صحة السلطان قابوس على اهتمام العمانيين بعد أحداث الربيع العربي. فالمواطن العماني لا ينظر لهذا السلطان بوصفه حاكماً للبلاد وحسب بل "على أنه "الأب" لهذه الدولة. وهذه الأبوة مثلما تأتي بشقها الجميل فهي أيضا تأتي بشقها "الأقل جمالا" والذي يرى فيه المواطن الابن أن السلطان الأب هو وحده القادر على حل كل المشاكل".[3] وما زالت الحالة الصحية "الملتبسة" وغير الواضحة للسلطان تُثير مشاعر قلق حول مستقبل البلاد والخيارات التي قد تؤثر على حال الاستقرار فيها في مرحلة "ما بعده". ورغم أن سؤال "الخلافة" أو سؤال " مابعد السلطان" ما زال يصنف في مقدمة الأسئلة المسكوت عنها،[4] إلا أن هناك طروحات تحاول التفكير بصوت عالٍ وجريء لتبحث في خيارات "أكثر نضجاً، بعيداً عن الخصام أو الصدام". فالبلاد في هذه المرحلة الحسّاسة بحاجة إلى شراكة حقيقية متكافئة بين السلطة والشعب، تطرح عبرها جميع أسئلة الحاضر الصعبة والمؤلمة، ويتم بواسطتها رسم خارطة طريق نحو المستقبل بخطى واثقة مطمئنة.[5]
في 11 أكتوبر 2011 شهدت مدارس كثيرة في البلاد اضراباً مفتوحاً للمعلمين احتجاجاً على فض اعتصام لهم بالقوة يوم 10 أكتوبر من قبل قوات مكافحة الشغب. وكان نحو مائة معلم عماني قد نظموا اعتصاماً سلمياً للمطالبة بإصلاح النظام التعليمي والسماح بإنشاء نقابة للمعلمين وتهيئة مناخ عمل أفضل لهم والتعجيل باصدار اللائحة التنظيمية لشؤون الطلاب. لقي هذا التعامل العنيف مع المعلمين سخطاً لدى الكثير من العمانيين، الذين أعرب المئات منهم وبينهم مثقفون وحقوقيون وناشطو مجتمع مدني عن إدانتهم لما وصفوه بـ"الصورة غير الحضارية" في تعاطي قوات الأمن مع المواطنين، واعتبروه "تعدياً على شعب بأكمله، وعلى حقه في التعبير والتجمع السلمي".[6]
في 24 مايو 2012 نفذّ عمّال النفط أكبر إضراب عمالي من نوعه في دولة في الخليج، وفي قطاع حيوي كالنفط، اشترك فيه ما يقرب من 4,000 آلاف عامل في كافة مناطق البلاد. استمر الإضراب أسبوعاً، حاولت السلطة خلاله البحث عن حلول سريعة تجنباً لتفاقم الأزمة، وشكّلت وفوداً تضم وزراء من الحكومة، وأعضاء من مجلسي الدولة والشورى، لزيارة العمال في الحقول وفي مواقع الإضراب والاستماع لمطالبهم، واستصدار قرارات سريعة لضمان عدم توقف الإنتاج والتأثير على بقية القطاعات.[7]
لم يتوقف الكثير من الناشطين والمثقفين عن المطالبة بمزيد من الحريات السياسية والمدنية، مُتحدّين كل عمليات التوقيف والاحتجاز، والاعتقال، والسجن، وتشويه السمعة، وغيرها من االتداعيات لحقوقهم السياسية الأساسية بما فيها الحد الأدنى من ممارسة الحق في حرية التعبير. في المقابل ردت السلطة المركزية عن طريق تغيير التشريعات التي تجرّم "التجمعات" والاعتصامات" و"الوقفات الاحتجاجية" مهما كانت سلمية، و"المساس" بحاكم البلاد أو "الأجهزة الأمنية" سواء بالنقد أو حتى التلميح رمزاً في الأدب والفن والكتابة في الفضائين الواقعي والافتراضي. في هذا المقام تم توجيه التهم إلى مئات المتظاهرين المؤيدين للإصلاح في 2011 و2012، وما بعدهما. وسيق الكثير منهم للسجن ووُجهت لهم تُهم مختلفة كـ "النيل من هيبة الدولة" و"إعابة الذات السلطانية"و "زعزعة الأمن العام" و الإخلال بـ"السكينة العامة". وكان السلطان قابوس قد أصدر في مارس 2013 عفواً عن معظم اولئك المتهمين. بيد أن الأجهزة الأمنية المختلفة ما زالت تواصل مضايقة بعض النشطاء وتعتقلهم لمدد مفتوحة، اعتماداً على قوانين فضفاضة تجرّم الممارسة للكثير من الأنشطة السياسية.[8]
تواصل الحراك المدني العُماني بعد عام 2011 على شكل مبادرات عدّة، تنوعت اهتماماتها وموضوعاتها ووسائلها. وأصبح واضحًا للمجتمع والسلطة معًا حرص الشباب العُماني على استثمار هذه اليقظة وتوظيفها لإحداث تحوّل أكثر عمقًا في التفكير والحوار والنقد. بل وتجاوزت هذه المبادرات، بحيويتها وحضورها، نشاط كثير من الجمعيات والمؤسسات المرخصة رسمياً، وتميزت بإبداع وسائل أكثر قرباً لقلوب وعقول الأجيال الشابة. فمن مبادرات تُعنى بحالات الطقس والتغير المناخي إلى مبادرات تربوية تعزز حب المعرفة والاطلاع وتشجيع القراءة، إلى مبادرات تنظم صالونات حوارية مفتوحة في المقاهي العامة والحدائق والمتنزهات، تناقش موضوعات كانت تعد من "التابو السياسي" المحرم مناقشته حتى في المؤسسات والمنتديات المرخصة رسمياً من السلطة. كل ذلك النشاط، كان مشفوعًا ومدعومًا بحضور مكثف في وسائل التواصل الاجتماعي كـ"فيسبوك" و"تويتر"، و"واتس آب"، و"إنستجرام" و"يوتيوب" وغيرها.
بيد أن السلطة المركزية عملت على إعادة الوضع الساكن إلى ما قبل حراك عام 2011، داعمةً تحركها بالقوانين التي عدّلتها، وبالتوظيف المكثف لمآلات الوضع في بلدان الربيع العربي كمصر وليبيا وتونس واليمن مذكّرةً المجتمع وأفراده في خطابها الرسمي (الإعلامي والديني والثقافي) بالعواقب الوخيمة التي تعانيها هذه المجتمعات من جرّاء السكوت أو التهاون مع أفكار وممارسات الحراك الثوري التي اجتاحتها.[9]
عملت السلطة على تعديلات سريعة وجذرية في منظومة القوانين المتعلقة بالحقوق الأساسية والحريات العامة كحق التعبير وحق التجمع السلمي. عكست هذه العملية خوف السلطة من تنامي حركة الاحتجاج وتوسع الوعي بها (خارج سيطرتها). كما أطلقت هذه التعديلات يد السلطة التنفيذية وخاصة أجهزتها الأمنية على النشطاء لمزيد من التضييق. واعتبر البعض أن التعديلات التي تمت على قانون الجزاء، وقانون الإجراءات، وقانون المطبوعات والنشر، وقانون الاتصالات، وقانون تقنية المعلومات، مؤشر تراجع عن الحالة التي كانت عليها البلاد منذ أربعة عقود.[10]
على صعيد حق المشاركة السياسية، تم استبعاد عدد من المتقدمين لانتخابات مجلس الشورى (2015-2018)، من بينهم أعضاء في المجلس السابق، وذلك "لأسباب أمنية". واحتج عدد من المُستبعدين بأن "الاستبعاد لا علاقة له بالإجراءات القانونية أو بقانون تنظيم الإنتخابات، وإنما هو شكل من أشكال المضايقات الأمنية التي يتعرض لها شباب الوعي ومعتقلي الرأي" من بعد أحداث 2011.[11] كما أن الأمر "لم يتوقف عند هذا الحد بل سُدت الأبواب وغُلّقت السبل وبقي المترشح المستبعد في حيرة عندما لم يترك لـه أي باب للتظلم من قرار الإستبعاد الذي لا يعرف سببه. وحُصّنت اللجنة المشرفة من رقابة القضاء"[12] إثر صدور قرار رئيس المحكمة العليا بعدم اختصاص المحاكم بمختلف أنواعها بالنظر في الطعون المتعلقة بقرارات انتخابات مجلس الشورى بتاريخ 26 مارس 2015. وقد يكون واقع المجلس في نظر المشككين، ومكانته في عملية صنع القرار الوطني، مختصراً في تغريدة لأحد أعضاءه عبر حسابه في تويتر: "دخلتُ مجلس الشورى وأنا على شك وخرجت منه وأنا على يقين بأنه لا توجد رغبة جادة في إرساء وتمكين سلطة برلمانية تشريعية ورقابية مستقلة ونافذة"، حسب تعبيره.[13]
ما زالت الأصوات المبادرة للإصلاح تواصل دعواتها العلنية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والمتاح من المنابر الإعلامية (الالكترونية)، رغم كل التضييق المُمارس على دعوات كهذه من السلطة، ومن المجتمع تحاشياً لأي صدام مع أجهزة الدولة الأمنية. آخر هذه الدعوات "ميثاق الحوار الوطني"، والذي دعى الموقعون عليه إلى "حوار وطني مشترك قائم بين الشعب والسلطة الحاكمة في البلاد على مختلف المستويات على أن تكون فيه السيادة للشعب والحكم للقانون، وأساسها قيم المواطنة والعدالة والحكم الرشيد. وأكد الميثاق على أهمية وجود حوار حقيقي فعال يهدف إلى تنمية الإنسان تنمية مستدامة ويضمن حق الإنسان في الحريات الفردية والمدنية والاقتصادية ويكفل العدالة الاجتماعية والتعليمية، إيماناً منها أن الوضع الذي تعيشه البلاد حاليا يتطلب ذلك."[14]
بكلمة، يمكننا القول بأن أبرز ما يمكن لمسه من تطورات سياسية في عُمان في هذه الفترة يكمن في إصرار الناشطين من الشباب العُماني على التغيير والإصلاح وبطرق سلمية، وإن كانت مبادراتهم الداعية لذلك مشتتة، ومحدودة، وغير مؤطرة بإطارات تنظيمية واضحة (لموانع قانونية تجرّم العمل السياسي). لكنها، رغم كل التحديات، متواصلة.
في المقابل، تكشف ممارسات السلطة السياسية المركزية في عُمان عدم رغبتها في اتاحة الفرصة لميلاد مفهوم جديد للدولة ينشأ كنتيجة تعاقد اجتماعي بين بشر يُفوضون بإرادتهم الحرة وبين فرد أو جماعة تُدير شؤونهم العامة، وتضمن حرياتهم الفردية، متذرعةً بذريعة "الوحدة الوطنية" أو بذريعة "النضج السياسي" أو حتى بذريعة "أولويات التنمية" الاقتصادية والاجتماعية. إن هذا التأجيل، رغم كل التقدم المُحرز على مستوى دليل التنمية البشرية،[15] والذي تحقق نتيجة تعاون الشعب مع القيادة، أقول هذا التأجيل أنتج في المقابل مؤسسة تنفيذية، أمنية، رعوية، غدت جهازاً لا يحق للناس محاسبته، ولا نقده، ولا التفكير في تطويره. بل استطاع أن يقلب معايير الفهم لدى كثير من الناس، فغدا الواجب فضلاً وزيادة، تتكرم به السلطة على "رعاياها". مما يُجدد التساؤل التالي: هل نحن بصدد دولة بمفهومها الواسع والكّلي؟ أم سلطة نافذة ومهيمنة على المجتمع والدولة؟
الخارج: من أين ينبع كل هذا التَغايُر؟
حققت الدبلوماسية العُمانية نجاحات لافتة من وجهة نظرها على المستويين الإقليمي والدولي، خلال السنوات التي أعقبت الانتفاضات العربية وما خلّفه هذا الزلزال على دول المنطقة والعالم. عززت هذه النجاحات الحضور العُماني في عالم مضطرب، ومحيط هائج بالصراعات. تنطلق هذه الدبلوماسية من ثوابت من وجهة نظرها، قائمة على النأي بالبلاد عن الصراعات الدولية والإقليمية التي قد تنعكس على السلم الاجتماعي والوئام الداخلي.[16] كما تتجنب الدبلوماسية العمانية النزاعات التي لا تعنيها، قدر استطاعتها، و تحرص على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، وتُعلن في خطابها الإعلامي على الدوام بأنها مؤمنة بالحوار وبالحلول السلمية.[17] وبإمكاننا الإشارة في هذا المقام إلى الملفات التالية:
الملف النووي الإيراني
استطاعت عُمان أن تكون محوراً فارق الأهمية في التوصل إلى الاتفاق الموقع من قبل أطراف النزاع. هذا الاتفاق الذي وقعته إيران مع مجموعة (5+1) في جنيف في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، سبقته جهود عمانية على أعلى مستوى، إذ قام السلطان قابوس بزيارة لطهران في أغسطس/آب 2013 كأول زيارة يقوم بها رئيس دولة لإيران منذ تولي الرئيس الإيراني حسن روحاني منصبه، في دلالة بارزة على طبيعة العلاقة الخاصة التي تربط البلدين. وبدأت الأوساط الإيرانية تناقش علناً "أن زيارة سلطان عمان لإيران قد تشير إلى أن هذه الدولة تريد أن تلعب فيما بعد دور المضيف لمفاوضات إيران وأمريكا بدلا من دور الوسيط في العلاقة بين هذين البلدين".[18] محورية هذا الدور كانت قد بدأت قبل ذلك بسنوات. هذا ما ظهر جليًا في تسريبات ويكيليكس التي أتت على ذكر الدور العُماني في تسوية الملف النووي الإيراني، والاجتماعات السرية التي عُقدت في العام 2009، بين الأمريكيين والإيرانيين في مسقط للتمهيد للمفاوضات وبنود الاتفاق النهائي.[19] كما دأبت الدبلوماسية العُمانية على التوسط الدائم، والذي عادة ما ينجح،
من أجل إطلاق سراح أمريكان احتجزوا في إيران، أو رهائن إيرانيون احتجزتهم أمريكا بتهمة انتهاك العقوبات الأمريكية.[20]
تطمح عُمان من هذا التقارب بين إيران والغرب إلى تحقيق مصالح اقتصادية وجيوسياسية واسعة، مستثمرةً موقعها الاستراتيجي لجني ثمار متنوعة تؤمّن لعُمان اقتصاداً أكثر استقراراً من الاعتماد الكلي على النفط، والذي تشير أكثر التقارير تفاؤلاً بأنه لن يستمر في التدفق أكثر من 17 عاماً.[21] ومن المرجح في هذا السياق تنفيذ مشروع لبناء خط أنابيب للغاز يربط بين إيران وعُمان فور بدء تخفيف العقوبات على طهران.[22] تؤدي الطاقة دوراً مهما في هذا التقارب، فقد وقع البلدين في مارس 2014 على اتفاقية مدتها 25 عاماً وقيمتها 60 مليار دولار، تقوم بموجبها إيران بدءاً من عام 2015 بتزويد عمان بـ 350 مليون قدم مكعبة من الغاز سنوياً، وذلك عبر أنابيب الغاز الممتدة على طول 420 ميلا تحت مياه الخليج. وأعلنت إيران بشكل منفصل عن خطط لاستثمار 4 مليارات دولار لتطوير ميناء الدقم (المُطل على بحر العرب) وعن مشاريع بنية تحتية أخرى (مستشفى، جامعة، معاهد تعليمية وتقنية). وترغب إيران في أن تكون عمان منطلقاً لها إلى الأسواق الأفريقية، فيما تطمح عمان لأن تصبح نقطة عبور تجارية لدول وسط آسيا التي ليست لديها معابر بحرية.[23]
كما أن مسقط لا تخفي تطلعاتها الاقتصادية من هذا التقارب، على المدى المتوسط والبعيد. حيث تحرص من خلال هذا التقارب إلى تحويل ميناء الدقم إلى مركز عالمي لتجارة (الترانزيت) بين آسيا ودول البلطيق. كما تخطط مع طهران على إقامة (100) خزان لبيع النفط والغاز الإيراني من هذا الميناء المفتوح على المحيط الهندي. بل ذهبت طهران في حماستها إلى حد اقتراح "بناء جسر بحري يربطها بعُمان عن طريق مضيق هرمز، وإيران مستعدة لتحمل تكاليفه بالكامل. مع استعدادها لإنشاء فروع لجامعتها المفتوحة في مجال العلوم التقنية، والاستثمار في القطاع الطبي، ونقل التكنولوجيا في مجالي الطاقة والزراعة، وزيادة عدد الرحالات الجوية بين البلدين إلى (30) رحلة أسبوعيًّا".[24] كل ذلك يُعد مؤشراً قد يؤسس لعلاقة استراتيجية طويلة الأمد، إذا ما التزم الطرفان بموجبات الثقة السياسية، وقاما بحماية منافعهما المشتركة بعيداً عن الاضطرابات السياسية والايدولوجية التي تضجّ بها المنطقة.
ملف الاتحاد الخليجي
عبّرت عُمان في أكثر من مناسبة عن وجهة نظرها عن عدم جاهزية منظومة مجلس التعاون الخليجي، بتحدياته الهيكيلة الحالية، لأن يتحوّل إلى مرحلة "الاتحاد". هذه الدعوة "للاتحاد الخليجي" التي أعلنها الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز خلال الجلسة الافتتاحية للقمة الـ32 في ديسمبر 2011، ردت عليها عُمان، عن طريق وزيرها المسؤول عن الشؤن الخارجية، "بأنه في حالة طرح المشروع فإن عمان لن تكون عضواً فيه، كما أعلن عن استعداد بلاده للانسحاب من مجلس التعاون في حال الشروع في تأسيس الاتحاد الخليجي وقال: "إذا أقاموا الاتحاد لن نكون عضواً فيه" و"لن نكون جزءاً منه"، بيد أنه أكد على عدم ممانعة بلاده من "قيام الاتحاد".
أما بالنسبة للترتيبات الأمنية والدفاعية فقال "إذا كانت هناك ترتيبات أخرى أو جديدة لدول المجلس نتيجة للصراعات الموجودة أو المستقبلية، فنحن لسنا طرفاً فيها ولن نكون طرفاً فيها"، وقال "ينبغي علينا أن ننأى عن الصراعات الإقليمية والدولية" مشيراً إلى أن "في داخل مجلس التعاون وخارجه نعتقد أن القوة لن تعني بالضرورة أن يتعسكر الناس من أجل الدخول في صراعات". وكان في أكثر من مناسبة يؤكد على سياسة النأي بالنفس بقوله "نحن غير مستعدين للدخول في أي صراعات... ولا علاقة لنا بالمواجهات... ولسنا ذاهبين في الصراعات على الإطلاق لا شرقاً ولا غرباً".[25]
في ملف "الاتحاد" أيضاً، تكشف مداولات الهيئة المتخصصة المكلفة بدراسة الانتقال من التعاون إلى الاتحاد، أن الإجماع على دعوة "الاتحاد" لم يكن قائماً، كما تُصوره الرغبات اعند بعض أبناء المنطقة. فليست عُمان وحدها خارج منظومة الاتحاد مع بقائها وفيّة للتعاون فقط، إذ دولة الإمارات هي بدورها "لم تهضم دواعي الانتقال"، وترى أن المقترح يحتاج إلى دراسة مستفيضة وتشاور بين المجلس جماعياً وثنائياً وانفراداً. وأن الموضوع يحتاج إلى وقت وجهد وخبرة وإمكانيات لابد من توفيرها أولاً، والاتفاق على آلياتها ووسائل تنفيذها.[26]
الموقف العُماني من دعوات كهذه ليس بالجديد، فقد سبق لعُمان أن رفضت الانضمام إلى العملة الخليجية الموحدة ولم تر هذه العملية النور. ويرى الكثيرون بأن رفضها لفكرة الاتحاد تأتي "من منطلق مصالحها الخاصة وهي مصالح لا تتعارض مع مصالح الدول الخليجية الأخرى ولن تقف أبداً ضد أي اتحاد بين الدول الخليجية ولا بين أي دولتين خليجيتين".[27]
تتعامل الدبلوماسية العمانية بحذر شديد مع الهيمنة السعودية حسب رأيها على مجلس التعاون الخليجي. وتحرص على اتخاذ موقف واضح من كل فكرة تعكس هذه الهيمنة وترغب في توظيف المجلس كغطاء داعم لها. كما أن طبيعة العلاقة الخاصة التي تربط عُمان والجارة الكبرى في الضفة الأخرى من الخليج (إيران) يُحتّم عليها التروي لكي لا تتأثر العلاقة الاستراتيجية العميقة التي تطورت بين البلدين على امتداد العقود الأربعة الماضية بكل تناقضاتها وصراعاتها. كما يرى البعض بأن دول مجلس التعاون في المجمل، بلا استثناء، وبعد أحداث الانتفاضات العربية بشكل أوضح، ليست "مستقرة سياسيًا، وأنها ترقد على بركان قد يثور في أية لحظة".[28]
ورغم انتشار أشكال التمدن، والتوسع الكمي للتعليم، والتقدم المُحرز في مؤشرات النمو الاقتصادي في بلدان الخليج العربية، والذي أنتج جيلاً أكثرة جرأة في التعبير عن آرائه وتطلعاته السياسية والمدنية باتجاه التعددية والمشاركة، إلا أن الواقع كشف أيضاً عن الحساسية المفرطة التي تُعانيها الأنظمة عند الحديث عن التعددية، والمشاركة في الحكم، والتوزيع العادل للثروة، والحريات وحقوق الإنسان داخل كل قُطر. فكيف ستُسوّي هذه الأسر إشكالات المساس "بشرعيتها" ووجودها القائم مع سؤال "الاتحاد" الذي يتطلب بالضرورة التنازل عن كل أو جزء من ذلك، وهي غير قابلة لحوار كهذا مع شعوبها، فكيف سيكون حالها مع الشعوب المجاورة لها؟
ملف حرب اليمن
امتداداً لموقفها المحايد من أي صراع، وخاصة ذلك النوع من الصراعات الذي تديره السعودية على وجه الخصوص، اختارت مسقط المنطقة الوسط في حرب اليمن الأخيرة. إن اختيارها لدور الوسيط بين أطراف الصراع تحتمه عوامل موضوعية معتبرة: فاليمن جار أبدي لعُمان، وتربطه علاقات ديمغرافية وقبلية معقدة، وتاريخ الصراعات السياسية (آخرها ثورة الجبهة الشعبية لتحرير عُمان والخليج العربي 1965-1975) لا يمكن تجاهله، أو اللعب على عواقبه النفسية والسياسية والاجتماعية، إضافة إلى حرص الساسة في مسقط على وجود منفذ آمن لمأزق اليمنيين الدائم من صراعاتهم مع أنظمة حكمهم المتعاقبة وتعقيداتها. بل وقد يكون أنه حتى السعودية ذاتها أصبحت في حاجة ماسّة، مأمونة، وذات مصداقية لأطراف الصراع إقليمياً، سواء عسكرياً أو دبلوماسياً. ويبدو أن "السعوديةُ تعتبر عُمان منطقة حرّة للتفاوض مع الإيرانيين في اليمن". ويرى دبلوماسي عُماني أن: "السعودية ورّطت نفسها في حرب اليمن. والسيطرة على عدن لا تعني سوى المزيد من الغرق في هذا المستنقع. ستكتشف السعودية ذلك وحينها سيأتي دور عُمان، بعد أن تتأكد السعودية من لا جدوى الحرب". وباعتراف السعوديين أنفسهم فإن عُمان "وسيط نزيه، هادئ، ومؤتمن ولا يحب الاستعراض".[29]
إلا أن هناك وجه آخر ينبغي علينا ألا نغفله عند دراستنا لملف كهذا، وهو ما يقارب لنا مسألة استقلال القرار الدبلوماسي العماني من عدمه في منطقة تموج بالصراعات وتتداخل فيها مصالح القوى الكبرى، التي لا تترك مسألة "الاستقلالية" بعيداً عن موازين مصالحها، وتُدرك جيداً عمق وسائل التأثير على قرارات هذه الدول، وعمان ليست استثناء هنا. فمسقط لم تُستَشر أصلا في الدخول في الحرب من عدمه، حيث صرح الوزير المسؤول عن شؤون خارجيتها في أكثر من مناسبة: "بأنها لم تُدعَ للاجتماع التنسيقي قبل الحرب، ولم تبلغ أو يطلب منها المشاركة، ومن هذا المنطلق، فلا يمكن القول أن عمان اتخذت قرارا بعدم المشاركة بالحرب، لأنها وبكل بساطة، لم تُتَحْ لها فرصة الاختيار لتختار. وبحسب احد المحللين: " كما أنه، بالتالي لا يمكن القول أن عمان لم تشارك من منطلق حيادها وعدم خوضها في حروب ومشكلات إقليمية، تؤدي إلى مزيد من التوتر وسفك الدماء في المنطقة، حيث أن عمان شاركت تحت راية أمريكا وحلفائها في تدمير العراق منذ سنوات، وتشارك حتى اليوم تحت راية أمريكا في الحرب ضد داعش، وشاركت في تدمير أفغانستان منذ أعوام" حسب رأيه.[30]
فهل فعلاً كان قرار الحياد العُماني في الحرب مستقلاً، مبنياً على مبادئ راسخة؟ أم متفق عليه كخط رجعة أخير يمكن اللجوء إليه من طرفي الصراع، السعودية وإيران؟
أحداث العام 2015
حفلت 2015 بالكثير من الأحداث الجديرة بالاهتمام. اهتمام يتجاوز الراهن العُماني إلى المستقبل الذي يبدو في ظاهره القليل من الهدوء والسكينة، غير أن باطنه يحتمل الكثير من التحديات والغليان. فمن السؤال الأبرز: صحة السلطان، وسلطته، وخلافته، إلى تواصل اعتقال وسجن بعض المثقفين والشعراء والمطالبين بالإصلاحات، إلى عواقب إنهيار أسعار النفط وإنعكاساتها على حياة الناس، إلى تمدد نفوذ السلطة على حساب مفهوم الدولة؛ ومن طاقات شبابية متجددة الوسائل والمحاولات تروم التعبير عن ذاتها وآمالها في المشاركة في الإدارة والحكم (محاسبة ورقابة ونقداً) في وجه آلة أمنية وإعلامية وقانونية واجتماعية كبيرة لا هدف لها إلا الحفاظ على الوضع القائم وتأبيده؛ كان العام 2015 امتداداً طبيعياً لمرحلة ما بعد أحداث 2011، بل كان عام تأكيد المخاوف العُمانية المؤجلة بامتياز. ظهر ذلك من خلال مؤشرات بارزة، نورد بعض الأمثلة عليها، على سبيل المثال لا الحصر:
عودة السلطان...عودة الأسئلة والأوسمة
أثارت عودة السلطان قابوس للبلاد من رحلته العلاجية من ألمانيا في مارس 2015 حالة من الترقب في إحداث تغييرات جذرية، خاصة بعد الفراغ الملموس الذي أحدثه غيابه، والقلق الواسع الذي عم أغلب العمانيين. وهو أمر طبيعي في حالة الدولة العمانية المعاصرة والتي بُنيت على محور "أبوية" الحاكم ورعايته و"مكرماته". حاولت بعض الأطروحات التنبيه إلى عمق التحديات التي تواجه واقع البلاد، بعيداً عن الصورة الوردية التي تحاولها الدعاية الرسمية. الواقع الذي لا يمكن أن يتجاهل "مؤسسات الدولة الضعيفة وغير المتجذرة. الفساد المستشري كوباء ينخر في أجهزة السلطة. الشعب الغاضب والمحتقن، اعترفت السلطة بذلك أم استمرت في تجاهلها. مستقبل الحكم في البلاد غير واضح. مع التواجد في اقليم مشتعل من جميع زواياه، الطامعون ... فيه أكثر من الأصدقاء".[31] كما أكد البعض على ضرورة إحداث نقلة نوعية في قيم المجتمع ودفع إرادته في التغيير خطوة إلى الأمام لأن "الأمور لم تكن طيبة، وأنّ المشاكل تفرز مشاكلَ أخرى مع الوقت. وأن البيروقراطية [العمانية] في أحسن أحوالها عديمة الكفاءة وقصيرة النظر (فشل خطة عمان 2020) […] وفي أسوئها فاسدة، وكانت في جميع الأحوال غير قادرة على التحرك إزاء المآزق التي تعيشها البلد والمنطقة، وعن التحرك مع الوجهة التي يسير إليها العالم. كان فعلها هو عدم الفعل وعدم الحركة، وذلك أسوء خيار".[32]
بيد أن السلطان، أو السلطة، أو الدولة، أو الجهاز التنفيذي أو الحكومة (كل ذلك قد تكون شخص واحد) لم تلتفت بعد لكل هذه الأفكار. بل على العكس، قام السلطان بتكريم وزرائه ووكلاء الوزارات، والمستشارين، ومن في حكمهم في الوظائف العامة، وقادة القوات المسلحة، وعدد من كبار الضباط في الأجهزة العسكرية والأمنية[33] بأوسمة رفيعة، وامتيازات واسعة، دونما اعتبار، لا لدعوات المراجعة والتقييم المتزايدة، ولا إلى نداءات المجال العام بمكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، ولا حتى توافقاً مع دعوات الحكومة نفسها الداعية لشد الأحزمة، و"ترشيد الإنفاق".[34]
الإنسان بين الحق والمكرمة
ما زال سؤال الإنسان وحقه في أن يعيش في أمن وسلام دون تهديد بسبب كلمة أو رأي عبّر به عن ذاته وضميره أحد أبرز الملفات المتجددة كل عام في عُمان. ففي الوقت الذي يجادل فيه البعض بأن عُمان بسجلها الحقوقي أفضل من غيرها في المحيط الخليجي، إلا أن تلك "الأفضلية" تندرج في مقام الأخف في الانتهاك، وليس الأعلى في الالتزام بمعايير الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
يُدلل على هذا الجدل "الإحسان الأمريكي" على الدبلوماسية العمانية، عندما وافقت وزارة الخارجية الأمريكية، مؤخراً، على إعفاء عُمان من انتقاد علني محرج لسجلها في مجال حقوق الإنسان مكافأة لها كحليف عربي وثيق ساعدها في التوسط لبلوغ الاتفاق النووي مع إيران. واستثناءها برفع تصنيفها في تقرير مهم يُقدم للكونجرس يخص سجل الدول الخاص بالسُخرة والإتجار بالبشر، وهو استثناء قد يُسيئ لعُمان ويوحي إلى تراجعها في الملفات الحقوقية أكثر مما يخدمها ميدانياً على المستويين المحلي والدولي.[35]
في سياق متصل عبرت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما متمثلةً في البنتاغون عن امتنانها لرغبة الحكومة العمانية في دعم جهود أمريكا لإغلاق معتقل غوانتاناموا وللإجراءات الأمنية والإنسانية التي تتبعها، بعدما أصبحت عُمان الوجهة الرئيسة للمعتقلين (اليمنيين منهم خاصة والذين يشكلون نصف نزلاء المعتقل سيء الذكر). ويرى الكثير من المراقبين أن حادثة نقل السجناء هذه، ستُعزز العلاقة بين واشنطن ومسقط.[36]
في فبراير 2015، وتفعيلاً للاتفاقية الأمنية الخليجية، ألقت السلطات الإماراتية القبض على المدوّن والشاعر العُماني معاوية الرواحي وهو يعبر الحدود العُمانية الإماراتية، ووجهت له تهمة "الإساءة إلى الإمارات وحكامها وشعبها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي". ورغم التقارير الطبية والقانونية الرسمية التي تؤكد معاناة معاوية من مرض نفسي وهو اضطراب "ثنائي القطب" والذي يجعله غير مسؤول عن تصرفاته، ، إلا أن الإمارات أطالت مدد عرضه على القضاء عن طريق تأجيل جلسات محاكماته (وصلت عدد مرات التأجيل 6 مرات على الأقل، طوال عام كامل). لم تُشكِّل قضية معاوية إحراجاً لسلطات الإمارات بقدر ما شكلت إحراجاً للشعب والسلطة في عُمان، " فهيَ السلطَة ذاتها التيْ استطَاعت وساطاتها إخرَاج الأميركان من قلبِ سجُون المخابرات الإيرانيّة لا لتغريدة كتبُوها في تويتر ولكنْ في قضايا تجسس شائكة وبينَ دولتين يفصلُ بينهما حظرٌ دوليّ وحربٌ باردَة لعقود وهي السلطَة ذاتها التي أخرجت الأميركان والبريطانيين من كهُوف اليَمن وثغُورها وأعادتهم سالمين آمنين إلى حضن أوطانهم".[37] بيد أن هناك شكوكاً متداولة شعبياً تذهب إلى "أن الأجهزة الأمنية العمانية تعاونت مخابراتياً مع الأجهزة الأمنية في الإمارات من أجل تسليم معاوية الرواحي، وذلك رغبة من السلطات العمانية في التخلص منه بعد اعتقالها له أكثر من مرة، والإفراج عنه. وبعدما أعيتها انتقادات الروّاحي لأداء الأجهزة الأمنية العمانية كما أن له بعض المنشورات التي تراجع عنها معاوية لاحقا وحذفها، والتي انتقد فيها المبالغة في تقديس شخص السلطان".[38]
في موضوع متصل، جددت قوات الأمن العُماني القاء القبض على المدافع عن حقوق الإنسان سعيد جداد في نوفمبر 2015، وداهمت منزله، ونقلته إلى سجن رزات في مدينة صلالة. وجاء اعتقاله بعد أن أيدت محكمة الاستئناف في صلالة حكما بسجنه سنة واحدة مع غرامة مالية قدرها 1,000 ريال عماني في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، بتهمة "استخدام شبكة معلومات (الإنترنت) في نشر مواد من شأنها أن تخل بالنظام العام".[39]
الحكم بالسجن ثلاثة أشهر على الباحث وفنان الكاركاتير سعيد الدارودي لكتابته منشوراً على فيسبوك "أنا ظفاري ولن أكون عُمانياً حتى أموت".[40] كذلك الحكم بسجن الإعلامي نصر البوسعيدي، سنة يُنفذ منها شهر، ودفع 200 ريال عماني (نحو 520 دولار) في حالة الاستئناف. وإحالة المطالبات المدنية للمحكمة المختصة، بتهمة ”التعدي بالسب والقذف في حق المسؤولين عن "فلج دارس"، بولاية نزوى، على خلفية تغريدات نشرها عبر حسابه في موقعي التواصل الاجتماعي تويتر والفيسبوك.
في الوقت ذاته، بدأت أعداد الناشطين العمانيين المهاجرين من عُمان بالتزايد، بعد تصاعد المضايقات عليهم[41] في ظاهرة جديرة بالدراسة والتحليل. إلى جانب نبهان الحنشي، وخلفان البدواوي، وأحمد العريمي، وعبدالله المعمري، كان محمد الفزاري آخر هؤلاء الناشطين، "بعد أن تعرض لمضايقات وصلت إلى سحب جواز سفره وإصدار قرار بمنعه من السفر".[42] كما اعتقل جهاز الأمن الداخلي الشاعر والمنتج التليفزيوني ناصر البدري في 20 ديسمبر 2015 على خلفية عدد من التغريدات نشرها على حسابه في موقع تويتر، وعلق فيها على الأزمة الأقتصادية في عُمان، وخاطب فيها السلطان باعتباره أب العائلة العمانية، وطلب من السلطان "الأب" التدخل لإيجاد الإصلاحات اللازمة لتظل هذه العائلة متماسكة، أو أن يظل السلطان رمزا عالياً ويُعّين رئيس وزراء يستطيع المواطن أن يحاسبه،[43] وهو الأمر الذي اعتبرته أجهزة الأمن إساءة للسلطان تستحق الاعتقال.[44]
وفي دليل آخر لحالة المضايقات على المختلف عن السائد والمسيطر الرسمي: توقفت مجلة "مواطن" الالكترونية عن النشر، نتيجة "التهديدات [التي] طالت كُتّاب المجلة، وتعرّض أحد الكُتّاب للاعتقال لمدة ثلاثة أيام متتالية؛ بسبب نشره مقالات في مواطن".[45]
مشاركة سياسية بمقاييس خاصة
شهد العام 2015 انتخابات أعضاء مجلس الشورى للفترة الثامنة (2015-2019). وقد أثارت أجواء هذه الانتخابات ذات الجدل الذي أثارته اانتخابات الفترات السابقة، من قدرة أعضاء المجلس على ممارسة صلاحياتهم "التشريعية والرقابية"، وبشكل حقيقي وفاعل، في ظل استحواذ مجلس الوزراء على عملية صنع القرار. جدلٌ أجّجته حساسية الفترة القادمة في ظل تهاوي أسعار النفط، ومساحات التحرك التي يمتلكها من أجل الضبط والمحاسبة، وتحديد أولويات الصرف في الموازنة العامة السنوية، أو حتى الخطط الخمسية القادمة.[46] إذ أن التجارب السابقة أوضحت، وبشكل جلي تعطيل هذه المؤسسة عن القيام بدورها الفعّال، إلا من أدوار شكلية، وممارسات متفرقة، بلا سياق تشريعي، رقابي، محاسبي حقيقي وفاعل.
أما على المستوى الإجرائي والكمي، فقد بلغت نسبة التصويت في الانتخابات (حسب البيانات الرسمية) 56،66%، حيث أدلى 252 ألف و905 ناخباً وناخبة بأصواتهم في الانتخابات، منهم 127 ألف و955 ناخباً و124 ألفاً و950 ناخبة، من مجمل 525 ألفا و 785 ناخبا وناخبة ممن يحق لهم الإدلاء بصوتهم. بلغت نسبة الوجوه الجديدة في مقاعد مجلس الشورى 70%، يفوزون بعضوية الشورى للمرة الاولى، ومعظمهم من فئة الشباب، إذ تتراوح أعمارهم بين 30 و45 سنة.[47]كما أسفرت النتائج عن فوز امرأة واحدة بمقعد (وبالأحرى تم تجديد انتخابها عن ولاية السيب). إن موضوع المرأة ودخولها ميدان العمل السياسي، سؤال مهم وجوهري، لا يتم طرحه إلا موسمياً، وتطغى عليه الأحكام العامة التي عادة ما تمتدح "تقدمية" السلطان وحكومته "بمنح" المرأة مكانة سياسية مرموقة، في مقابل "تخلف المجتمع" و"رجعيته" عندما يترك له حرية القرار. وهو أمر يحتاج إلى دراسة أكثر عُمقاً من هذا التسطيح المُخِّل بوعي الإنسان في عُمان.
أما مجلس الدولة (المعين) فقد تم إعادة تشكيله هو الآخر هذا العام بعد إعلان نتائج الانتخابات مباشرة بـ84 عضواً، 23 عضوا منهم أعضاء سابقين بينما 61 عضواً أعضاء جدد، توزعوا بحسب النوع الاجتماعي إلى 72 رجلاً مقابل 12 إمرأة، شكل الأعضاء الجدد منهم: 53 رجلاً و 8 نساء.[48]
على الجانب الآخر استمرت عدد من الممارسات التي تؤثر على مسألة المشاركة السياسية الحقيقية، كتغاضي السلطة عن ظاهرة شراء الأصوات،[49] وتدخل الجهات الأمنية المباشر في استبعاد الأسماء التي لا ترغب في تواجدها في هذه المجالس،[50] بالإضافة إلى وجود أعضاء ومترشحين حصلوا على "دعم غير مباشر" حكومي والآخر خاص، مع وصول أعضاء جدد كانوا موظفين لدى جهات معروفة (أمنية وعسكرية على وجه التحديد).[51]
ختاماً
يبدو المشهد السياسي العماني بعد خمس سنوات من أحداث الربيع العربي، للمراقب في الداخل أو في الخارج، ساكناً، مستقراً، مُسَيطراً عليه من قبل سلطة سياسية قوية، قادرة على احتواء أي أزمة بحلم الحوار، وسعة الفهم الكافل لبقاء الوضع القائم، بنظامه وشبكات مصالحه بأقل الخسائر، بالترغيب تارة، متى ما توفر المال والجاه، وبالترهيب تارة أخرى، إذا لم تجدي الطريقة الأولى. رهان السلطة في ذلك التحكم والسيطرة على أي قوى سياسية قد تؤدي دوراً له وزن وقيمة، عن طريق الاختراق الفعّال، أمنياً واجتماعياً واقتصادياً ودينياً وإدخال تلك الجماعة الطموحة أو ذاك الفرد المتطلع إلى حيّز سيطرتها من خلال النطاق العريض لشبكة مؤسساتها السياسية والإدارية المتعددة.
السؤال الجِدّي الذي يطرح نفسه هنا: إلى أي مدى ستكون هذه الطريقة ناجعة، وكافلة لاستقرار مستدام؟ وهل ستتغيّر هذه الخلطة، الفعّالة حالياً، بعد مرحلة السلطان الحالي؟ هل سيصمد هذا النظام أمام تزايد حالات اللاعدالة في الدخل والتوظيف والمشاركة السياسية؟ وهل ستغنيه نجاحاته الدبلوماسية في الخارج عن استحقاقات الإنسان في الداخل؟
لقراءة الجزء التالي من الاصدار
لقراءة النسخة الكاملة من الاصدار (pdf)
لتصفح محتويات الاصدار الكترونيا
http://studies.aljazeera.net/reports/2013/12/201312494418689484.htm
http://www.alfalq.com/?p=7702
http://carnegie-mec.org/publications/?fa=58849
http://www.alfalq.com/?p=7168
http://altowayyah.blogspot.co.uk/2011/10/blog-post_11.html
http://studies.aljazeera.net/issues/2014/03/20143594339143167.htm
http://www.mowatinoman.net/archives/3600
http://hdr.undp.org/sites/default/files/reports/270/hdr_2010_en_complete_reprint.pdf
أحمد الإسماعيلي، "التعددية الإثنية واللغوية والدينية في عُمان وعلاقتها بالاستقرار السياسي"، مجلة عُمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، العدد 11، المجلد 3، شتاء 2015، نسخة الكترونية على الرابط:
http://www.dohainstitute.org/file/Get/23e3c7b0-746b-4e9e-a03c-0c6cd9e6cc5c.pdf
كذلك: نفس الباحث، أحمد الإسماعيلي، صناعة نظرية السلام.. الدبلوماسية العمانية وعلائق الصراع، مجلة شرق غرب، العدد 6، 30 يونيو2015
http://sharqgharb.net/ssnaatt-nthzre-att-alslam-aldblwmase-att-alaumane-att-walaaeq-alssraa/
http://www.gulfpolicies.com/index.php?option=com_content&view=article&id=2226:2015-12-20-07-27-19&catid=151:2011-04-09-07-48-16
http://studies.aljazeera.net/reports/2014/01/2014189038704848.htm
http://uk.reuters.com/article/uk-usa-humantrafficking-oman-exclusive-idUKKBN0U40FP20151221
https://www.frontlinedefenders.org/ar/node/30188